TOP

جريدة المدى > عام > يوميات مجنون – نيقولاي غوغل Gogol

يوميات مجنون – نيقولاي غوغل Gogol

"كلّنا خرجنا من معطف غوغل"

نشر في: 2 نوفمبر, 2025: 12:02 ص

صلاح نيازي
إنْ لا بدّ لهذا الموضوع من مقدمة، فقد تكون الطفاحة التالية كافية.
عاش غوغل آثنين وأربعين عاماً (1809 – 1852).
أديب روسي من أصل أوكراني– بولندي.
كتب والده المسرحيات والشعر والمشاهد الهزلية باللغة الأوكرانية.
غوغل من آباء الأدب الروسي، ومن مؤسسي المدرسة الطبيعية Natural School وكذلك المدرسة الواقعية. نالت رواياته إعجاب تولستوي، وتأثر بها دوستويفسكي الذي تنسب إليه المقولة الشهيرة: "كلنا خرجنا من "معطف" غوغل".
كتب قصتين «أمسيات بحقل ديكانكا" وهو في الثانية والعشرين، عن ذكريات طفولته بأوكرانيا فعادتا عليه بالشهرة الواسعة، وزرقت في الوقت نفسه، حياة جديدة في الأدب الروسي.
عموماً كتابات غوغل عالمية، حتى وإن كتب عن حدث محليّ ضيّق.
لكنْ كيف أصبحت عالمية؟
قبل كل شيء موهبته الفطرية، وفضوله المعرفي. ثمّ انه عاش ببيئتين مختلفتين هما أوكرانيا وروسيا، وأتقن اللغتين. أضف إلى ذلك كثرة تنقله ببعض الدول الأوروبية، إذ عاش بإيطالية لفترة وكذلك بألمانيا، كما زار بيت المقدس عام 1848.
إلى ذلك درس غوغل الرسم في أكاديمية الفنون، وقرّر في فترة ما تأليف كتابين: أحدهما عن أوكرانيا لا سيما الميثولوجيا والفولكلور وثانيهما تأريخ العالم. بذا أصبحت عدسته البصرية أشدّ تركيزاً وأوسع مدى، وصوره أكثر شياتاً ونضارة، وأسلوبه أكمل رنيناً Resonance.
لكن قبل النظر في القصة لا بدّ من القول إنّ كتابة مقالة من أيّ نوع عن قصة بطلها مجنون، جزئياّ أو كّلّياً صعب جدّاً، ذلك لأن الحوادث لا تتطور منطقيا، ولا تتدرج بحيث يمكن تتبعها.
الأسلم، والحالة هذه، أن نتناول البداية عموماً والختام خصوصاً عسى أن نصل إلى نتيجة مقبولة.
من الطريف ان القصة القصيرة كانت أكثر الأساليب الأدبية شيوعا بروسيا وأوروبا.
كتب بلينسكي، عام 1834 وكان أشهر ناقد روسي: "القصة القصيرة الآن من بين كل الأساليب الأدبية هي الهدف الكلي، لاهتمام ونشاط جميع هؤلاء الذين يكتبون ويقرأون، إنها خبزنا اليومي، وكتابنا الذي نأخذه معنا لقراءتنا الليلية، ونفتح أعيننا عليها» تبدأ قصة "يوميات مجنون» كما يلي:
الثالث من أكتوبر
«شيء ما غريب حدث هذا اليوم. استيقظت متأخراً. جاءت «مافيرا» بحذائي النظيف سألتها عن الوقت. قالت الساعة الآن تجاوزت العاشرة. أسرعتُ لارتداء ملابسي. لأكنْ صادقاً، لو انني عرفت بالنظرة المتجهمة التي سيصوبها لي المدير، لامتنعت عن الذهاب إلى الدائرة أبداً. فمنذ مدّة وهو يقول لي لماذا انت مشوش دائما، تنتقل أحياناً من مكان إلى آخر كالمجنون، وعملك رديء. الشيطان نفسه لا يستطيع ان يفهمه..."
« لا بدّ إنه يغار مني».
على أية حال، من أهم ميزات غوغل، التفاصيل المدهشة مثل آلة تصوير تلتقط جملة من المرئيات مرة واحدة. ففي الثالث من أكتوبر مثلاً يرتدي الراوية معطفه ويأخذ مظلته. كانت السماء تهطل مدراراً، رغم ذلك كانت رؤيته دقيقة وواضحة. أكثر من ذلك راح يتذكر أشياء ليست في المشهد الآن، ولكن كان رآها سابقاً.
قال بطل القصة ما من أحد سوى فلّاحات مسنات قليلات يحتمين تحت ثيابهنّ، وبعض التجار الروس، تحت مظلاتهم وواحد أو اثنين من السعاة، أما الطبقة الراقية فثمة واحد أو اثنان منهم. أمّا في الشوارع فهناك امرأة رفعت ثوبها فوق رأسها، او تاجر ملتحٍ تحت مظلته، او ساعي مكتب «.
في الفقرة الأولى من يوميات 4 أكتوبر كـأنْ لا أثر للجنون. بطل القصة هنا يصف مديره بدقة أديب محترف. يقول مثلاً: "لا بدّ أن المدير ذكي جداّ. فخزانة كتبه مرصوفة بالكتب. قرأت عناوين بعض الكتب فإذا هي كلّها بالفرنسي والألماني.
أنظرْ إلى وجهه وسترى جدّيته تومض في عينيه. لم أسمعْه ينطق كلمة زائدة عن الضرورة يتضمن يوم 4 أكتوبر بالإضافة إلى العُدّة الثقافية، جانباً آخر مهماً، هو التقاؤه بالفتاة التي أحبّها. ولأهمية هذا اللقاء كتب الراوية الساعة التي حدث فيها ذلك (في حوالي الواحدة والنصف).
يقول الراوية:" حدث شيء مالا يمكن لقلم ان يصفه بصورة مناسبة".
ظنّ الراوية أنّ المدير هو الذي فتح الباب، فإذا بها هي نفسها. أوّل ما لفت نظره، ثوبها الأبيض مثل بطّة، وحين نظرت إليه، " فكأنها الشمس مشرقة" يقول سألتها عن أبيها. "يا له من صوت. كناري. تماماً مثل كناري. سقط المنديل من يدها بالصدفة، فرمى نفسه عليه فتزحلق وكاد يكسر فمه."
«يا له من منديل له رائحة العنبر النقي» في الاسطر الثلاثه أعلاه تظهر إحدى براعات غوغل. فقد استعمل ثلاث حواس هي البصر (اللون الأبيض) والسمع (صوتها) والشم (رائحة المنديل). وحين أعطاها المنديل اقترب منها، فانفرجت "شفتاها الحلوتان"، هكذا أضاف حاسة رابعة هي الذوق.
حينما عاد إلى البيت، راح ينقل شعراً لبوشكين:
ساعة واحدة من دونك
تبدو مثل سنة
ما الذي يهمني من وجودي
إنْ أنا أُنتزَعُ منكِ»
على منوال كهذا كان محرار الجنون يجمح فيصعد، أو ينزل، أو يعتدل لدرجة الصحو، إلا أنّ جنونا آخر كان يتربص ببطل القصة، وسرعان ما أطبق عليه إطباقا كاملاً وما من فكاك. إنه الوهم الذي استلب حواسه، وعرقل تلافيف دماغه. لا ريب إن أقسى عدو هو ما كان يربض في داخلك.
جلية الأمر أن بطل القصة قرأ بالمصادفة نبأ صحفياً في اليوم الخامس من ديسمبر مفاده ان منصب الملك قد شغر بإسبانيا، وأن الطبقات العليا تواجه صعوبات جمّة في اختيار وريث له. صدّق بطل القصة فظن أنه هو ملك اسبانيا المنشود. يقول: «هذه حقيقة واضحة وضوح الشمس أما الذين يعتقدون غير ذلك فإنهم "يظنون أن عقل الإنسان موجود في رأسه وهذا شيء غلط، لقد جلبته الريح من جهة بحر قزوين".
هكذا توسع الجنون من رقعة محلية ضيقة إلى رقعة ضمت الآن تخوم اسبانيا.
في هذه الاثناء زاره موظف إداري ليرافقه إلى المكتب، بعد غياب ثلاثة أسابيع.
وضعوا أمامه أوراقاً للتوقيع عليها. ولكنه بدل توقيعه المعتاد كتب "فردناند الثامن وخرج". ولأنه لا يثق بالخياطين راح يفصّل لنفسه رداء يليق به ملكاً.
عنون بطل القصة المادة اللاحقة من مدريد حسب ظنّه. قال: "أنا الآن بإسبانيا . وصل الوفد الاسباني هذا الصباح. وصلنا إلى الحدود الاسبانية، ثمّ القصر" هكذا تصور بطل القصة، مستشفى المجاذيب قصراً.
أُدخل إلى غرفة صغيرة فرأى أناساً حليقي الرؤوس، وحين رفض، ضربه «الوزير» بعصاه مرتين على ظهره" كاد يبكي، مع ذلك تصوّر أن هذا الإجراء هو اختبار له.
يقول بطل القصة:» كنت أعرف أن الفرسان الاسبان chivalry يقومون بهذه الطقوس قبل ان يُدخلوا شخصاً ما في الطبقة العالية".
قرر بطل القصة ان يشغل نفسه بقضايا عامّة، حيث كان قلقاً خاصة "أنّ ظاهرة غريبة ستقع. ذلك ان الأرض ستسقط على القمر. أكّد ذلك عالم انكليزي شهير «شعرت بقلق حينما تصورت هشاشة القمر اللا اعتيادية، فالكل يعرف ان القمر صُنع في هامبورغ وعملهم لم يكنْ متقناً».
وكتب في شهر يناير ان اسبانيا ما تزال غامضة، وأعرافهم القومية وتشريفات البلاط غريبة جدّاً. ففي هذا اليوم حلقوا شعري، حتى انني صحت بأعلى صوتي
لا أريد أن أكون راهباً"
ثمّ يقول:" أعتقد أنني وقعت بأيدي محاكم التفتيش Inquisition والرجل الذي كنت اعتقد أنه وزير دولة إنما هو مدير المحاكم نفسه، ولكن ما زلت لا أفهم كيف يخضع الملوك لمحاكم التفتيش.
يختم غوغل قصته "يوميات مجنون" بقطعة، بلغ بها قمة في كمال التأليف صياغة دقيقة، ولغة محكمة. إنها ايقونة فنية من نوع فريد. لباب ولا قشور.
مسكونة بسحر غامض. بطل القصة في أقصى ضعفه الإنساني لدرجة يستحيل معها إلى طفل منكوب. هو في كفة والعالم في كفّة، متنافسان في حلبة الوجود.
ربما من الأفضل أن نقدم أدناه ترجمة لهذه القطعة:
«لا ليست لي القوّة لتحمله أكثر من ذلك! ما يقومون به معي. يصبون ماء بارداً على رأسي! لا يرون، لا ينظرون، لا يصغون لي. ما الذي فعلته لهم؟ لماذا يعذبونني؟ ما الذي يريدونه من إنسان حطام تعيس مثلي؟
لا يمكنني تحمّل هذه العذابات، رأسي يحترق، وكل الأشياء تدوّم حولي. انقذْني بعيداً! أعطني عربة «تريوكا" بخيول بسرعة الريح.
إصعد إلى مقعدك أيها السائق. دع الأجراس تقرع! أيّتها الخيول إصعدي إلى السماء إلى الأعلى واحمليني بعيداً عن هذا العالم! أعلى أعلى حيث ما من شيء نراه، ما من شيء، ما من شيء أبداً! هناك السماء تدوّي. نجمة صغيرة تتلألأ من بعيد، الغابة تجتازنا بأشجار مظلمة، والقمر في ضباب أزرق ينتشر تحت قدميّ، وتر قيثارة، يدوّي في الرأس، البحر من هذا الجانب وإيطاليا من الجانب الآخر وهنالك يمكن رؤية أكواخ روسية. هل ذاك بيتي في المنطقة الأبعد الزرقاء؟ هل هي أمّي التي تجلس عند الشباك، يا أمي أنقذي آبنك المسكين! إذرفي دمعة على رأسه المعذب الموجع!
انظري كيف عذبوه! شدّي طفلك إلى صدرك! ما من مكان له في هذا العالم!
اضطهدوه! أمي، عزيزتي، اشفقي على ابنك المريض الصغير...ألخ

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق الدولي للكتاب

الأكثر قراءة

بروتريه: فيصل السامر.. قامة شامخة علماً ووطنيةً

موسيقى الاحد: 250 عاماً على ولادة كروسيل

الحكّاء والسَّارد بين "مرآة العالم" و"حديث عيسى بن هشام"

في مجموعة (بُدْراب) القصصية.. سرد يعيد الاعتبار للإنسان ودهشة التفاصيل الصغيرة

شخصيات اغنت عصرنا.. الملاكم محمد علي كلاي

مقالات ذات صلة

الكاتب يقاوم الغوغائية والشعبوية والرقابة
عام

الكاتب يقاوم الغوغائية والشعبوية والرقابة

أدارت الحوار: ألكس كلارك* ترجمة: لطفية الدليمي يروى كتابُ مذكرات لي ييبي Lea Ypi ، الحائز على جائزة، والمعنون "حُرّة Free" تجربة نشأتها في ألبانيا قبل وبعد الحكم الشيوعي. أما كتابُها الجديد "الإهانة indignity"...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram