TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > نهاية الدبلوماسية الكلاسيكية!

نهاية الدبلوماسية الكلاسيكية!

نشر في: 3 نوفمبر, 2025: 12:02 ص

حسن الجنابي

(هذه المقالة كتبت قبل التصريح المتلفز لأحد قادة هذه البلاد بأنه «خمط 23 درجة سفير، وخمط 44 درجة وزير مفوض» في قائمة التعيينات في الخارجية العراقية) .
تواجه الدبلوماسية في العالم، بمعناها الكلاسيكي، تحولات عميقة غير مسبوقة. فالعولمة الشاملة، وثورة التكنولوجيا، وخاصة في ميدان الاتصالات ووسائل التواصل الاجتماعي، جعلت من العالم فضاءً مكشوفًا، تتقاطع فيه الأحداث الوطنية مع العالمية، وتُعرض فيه القرارات والمواقف أمام جمهور واسع في لحظتها.
لقد وفّرت التقنيات الحديثة أدوات إعلان فورية للمواقف السياسية تجاه القضايا الكبرى أو التفصيلية التي تشغل العالم. فتغريدة واحدة من رئيس دولة أو وزير يمكن أن تُحدث تأثيرًا هائلًا على مجريات الأحداث. والولايات المتحدة نفسها شهدت مثالًا صارخًا على ذلك حين استخدم الرئيس السابق دونالد ترامب منصة "تويتر" التي أصبحت الآن منصة X)) لإقالة وزير خارجيته ريكس تيلرسون بينما كان في مهمة رسمية! وهو في عهدته الثانية الحالية أكثر تصميماً على كسر التقاليد الرصينة للدبلوماسية الدولية عن طريق "قراراته التنفيذية" وتجاوزه القنوات الراسخة للممارسة الدبلوماسية في الولايات المتحدة، بتعيين مبعوثين شخصيين بصلاحيات كبرى لعقد صفقات دون أدنى خبرة بالعمل الدبلوماسي.
سبق أن اهتزت ركائز العلاقات الدولية إثر تسريبات "ويكيليكس" الشهيرة التي أزاحت الستار عن أحاديث الغرف المغلقة ومراسلات البعثات الدبلوماسية. فما كشفه جوليان آسانج وإدوارد سنودن وتشيلسي ماننغ لم يكن مجرد خرق أمني، بل زلزال في بنية السرية التي عاش عليها النظام الدبلوماسي لعقود. وبعد نحو عقدين على تلك الصدمة، ما زال العالم يترنح أمام آثارها، فيما بقي آسانج لسنوات طويلة خلف القضبان حتى إطلاق سراحه في حزيران 2024 بعد اتفاق قضائي أنهى فصول مطاردته الطويلة.
لقد طوت العولمة ووسائل التواصل الاجتماعي صفحة الدبلوماسية التقليدية القائمة على المراسلات المشفرة والتقارير المرسلة إلى العواصم، وفتحت صفحة جديدة من الشفافية الفورية. ومع هذا الانفتاح الهائل، ووفرة المعلومات، وجد الدبلوماسيون أنفسهم أمام آفاق وفرص غير مسبوقة للتفاوض والتواصل وتحقيق النتائج. لكن المشهد لم يعد حكرًا عليهم، إذ باتت أطراف جديدة، من المجتمع المدني إلى صانعي المحتوى، تشارك في تشكيل الرأي والتأثير على المواقف الرسمية.
وهكذا تغيّرت طبيعة التفاوض الدبلوماسي جذريًا. فبعد أن كانت الحوارات تدور خلف الأبواب المغلقة على موائد محدودة، أصبحت تدور أمام جمهور عالمي مفتوح يتفاعل لحظة بلحظة عبر المنصات. باتت الدبلوماسية اليوم فعلاً علنيًا مكشوفًا أكثر من أي وقت مضى، وصار الدبلوماسي مطالبًا بأن يكون أكثر مهنية، وأوسع اطلاعًا، وأقدر على التعامل مع طوفان المعلومات.
إن الدبلوماسي المعاصر لا يكفيه ما قد يسمى بالمهارات التقليدية، كالقدرة على التفاوض أو التحدث بلغة أجنبية. عليه اليوم أن يكون محلل بيانات، ومتخصصًا في التواصل الرقمي، ومتابعًا نهمًا للمواقع الرسمية ولصفحات الشخصيات المؤثرة، فضلاً عن اتقانه أدوات الإعلام الجديد وفهمه لديناميات الرأي العام. كل ذلك إلى جانب ما تبقى من روح الدبلوماسية القديمة: اللباقة، والحكمة، والقدرة على إدارة الأزمات.
وفي المقابل، فإن دوائر وزارات الخارجية نفسها مطالَبة بإعادة بناء قدراتها الداخلية لمواكبة هذا التحول. فمهمة الدبلوماسي في الميدان لم تعد تقتصر على نقل التقارير إلى العاصمة، بل بات عليه أن يقرأ العالم في لحظته، وأن يسهم فعليًا في صياغة سياسات بلاده على ضوء ما يتدفق من معلومات وتحولات متسارعة.
هكذا إذن، لم يعد للعالم المغلق مكان. لقد خرجت الدبلوماسية من قاعاتها المكسوة بالمخمل، إلى فضاء رقمي صاخب يشارك فيه الجميع. وما كان سرًا بالأمس، صار اليوم مادة للنقاش العام، وشأنًا يتداوله الناس بلمسة إصبع.
في هذا السياق المربك، لم تعد الدبلوماسية مجرد وسيلة تفاوضية بين الدول، بل أصبحت ساحة صراع رمزي وإعلامي كذلك. إذ تتنافس الدول ليس فقط في ميادين القتال أو الأسواق، بل أيضًا في تشكيل السردية والرأي العام العالمي. كل خطاب رسمي، وكل موقف في منظمة دولية، وكل تغريدة من مسؤول كبير يمكن أن تتحول إلى أداة في حرب النفوذ هذه.
لقد فقدت الدبلوماسية الكلاسيكية شيئًا من سحرها الهادئ. لم تعد لغة الصياغات الدقيقة والمجاملات اللطيفة هي السائدة، بل حلّت محلها لغة حادة ومباشرة تعبّر عن استقطاب سياسي عميق. في عالمٍ لم يعد يخشى المواجهة العلنية، باتت الخلافات تُعرض على الشاشات قبل أن تُناقش في الكواليس.
ورغم هذا المشهد القلق، ما تزال هناك حاجة ملحة إلى دبلوماسية حقيقية، عقلانية، مرنة، قائمة على الفهم العميق للمصالح المشتركة وقادرة على تخفيف التوترات بدل إشعالها. فكلما ازداد الانقسام بين القوى الكبرى، ازدادت الحاجة إلى مهنيين متمرسين يفهمون تعقيدات التاريخ والجغرافيا والسياسة، ويتمتعون بمهارات تأهيل وخبرة عالية في إدارة الأزمات الدولية.
تلك هي المفارقة الكبرى: في زمن تكثر فيه القنوات وتتنوع أدوات الاتصال، تصبح الحاجة إلى دبلوماسيين حقيقيين أكثر من أي وقت مضى.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق الدولي للكتاب

الأكثر قراءة

العمود الثامن: الغرابي ومجزرة جسر الزيتون

العمود الثامن: نون النسوة تعانق الكتاب

العمود الثامن: مسيرات ومليارات!!

ثقافة إعاقة الحرية والديمقراطية عربيا

العمود الثامن: نصف قرن من التفوق

العمود الثامن: نصف قرن من التفوق

 علي حسين في مثل هذه الأيام، وبالتحديد في الثاني من كانون الاول عام 1971، أعلن الشيخ زايد عن انبثاق اتحاد الامارات العربية، وعندما جلس الرجل البالغ آنذاك خمسين عاماً على كرسي رئاسة الدولة،...
علي حسين

كلاكيت: في مديح مهند حيال في مديح شارع حيفا

 علاء المفرجي ليست موهبة العمل في السينما وتحديدا الإخراج، عبئا يحمله مهند حيال، علّه يجد طريقه للشهرة أو على الأقل للبروز في هذا العالم، بل هي صنيعة شغف، تسندها تجربة حياتية ومعرفية تتصاعد...
علاء المفرجي

البَصْرة.. لو التَّظاهرُ للماء والنَّخيل!

رشيد الخيّون تظاهر رجال دين بصريون، عمائم سود وبيض، ضد إقامة حفلات غنائيَّة بالبصرة، على أنها مدينة شبه مقدسة، شأنها شأن مدينتي النَّجف وكربلاء، فهي بالنسبة لهم تُعد مكاناً علوياً، لِما حدث فيها من...
رشيد الخيون

الانتخابات.. بين صراع النفوذ، وعودة السياسة القديمة

عصام الياسري الانتخابات البرلمانية في العراق (11 نوفمبر 2025) جرت في ظل بيئة أمنية نسبيا هادئة لكنها مشحونة سياسيا: قوائم السلطة التقليدية حافظت على نفوذها، وبرزت ادعاءات واسعة النطاق عن شراء أصوات وتلاعبات إدارية،...
عصام الياسري
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram