د. فالح الحمـــراني
تناقش الحكومة التركية تغيير شكل المهام العسكرية في سوريا والعراق عقب انسحاب قوات حزب العمال الكردستاني من الأراضي التركية. وتعتبر أنقرة انسحاب القوات التركية من العراق وسوريا بمثابة فقدان لمواقعها، وتعتزم الإبقاء على وجود هذه المهام رغم زوال السبب الأولي لانتشارها. وستُعيد تركيا هيكلة وجودها العسكري في الدول المجاورة كلما سنحت الفرصة. وما تزال المنشآت العسكرية التركية في سوريا والعراق نشطة تتيح تجسيد نفوذ انقرة في إطار التنافس الإقليمي، لذا تعتبر السلطات التركية انسحاب القوات بمثابة خسارة للمواقع.
ويعود سبب النظر في إعادة انقرة هيكلة المهام العسكرية إلى إعلان حزب العمال الكردستاني، خصم تركيا، سحب قواته من الأراضي التركية. وكانت المهمة الرئيسة للمجموعة العسكرية التركية في الدول المجاورة محاربة حزب العمال الكردستاني. وتعتقد بعض النخب التركية أنه ورغم إعلان حزب العمال الكردستاني، لا تزال تهديدات المنظمة قائمة في المنطقة. وويقيم المراقبون الوضع في العراق بانه غامض بسبب خطر "عودة" تنظيم داعش الإرهابي وروابط حزب العمال الكردستاني ببعض شخصيات النخبة العراقية. علاوة على أن حزب العمال الكردستاني ليس كيانًا متجانسًا، وثمة فصائل في داخله قد تعارض نزع السلاح وإنهاء المقاومة المسلحة.
ويُذكر أن قيادة حزب العمال الكردستاني قررت حل نفسها في أيار من هذا العام بناءً على دعوة من مؤسسه، عبد الله أوجلان، الذي يقضي عقوبة بالسجن المؤبد في سجن تركي. وأعلنت المنظمة في أواخر تشرين الأول، عن خطوتها التالية: سحب جميع قواتها من الأراضي التركية. وأعلن القادة الميدانيون للمنظمة عزمهم على اتخاذ خطوات عملية جديدة لمواجهة التهديدات المتزايدة الخطورة، وإرساء أسس حياة حرة وديمقراطية وأخوية. علاوة على ذلك، أعلن حزب العمال الكردستاني أيضًا سحب قواته من مواقع على طول الحدود التركية حيث يُحتمل نشوب صراع أو استفزاز. وكانت مواجهة قوات حزب العمال الكردستاني الذريعة الرسمية للوجود العسكري التركي في العراق وسوريا. وقبيل إعلان انسحاب حزب العمال الكردستاني، مدد البرلمان التركي، بناءً على طلب الرئيس رجب طيب أردوغان، تفويض البعثات العسكرية حتى عام ٢٠٢٨. وكانت ذريعة هذا القرار أن استمرار وجود خلايا حزب العمال الكردستاني قرب الحدود التركية يُشكل تهديدًا مباشرًا للسلام والاستقرار والأمن الإقليميين.
تجدر الإشارة إلى أن انسحاب قوات حزب العمال الكردستاني من الأراضي التركية لا يعني القضاء عليه تمامًا أو نزع سلاحه، إذ سيتم نقل عناصره إلى شمال العراق، حيث يقع مقره الرئيسي. وقد أثار هذا بالفعل مخاوف لدى السلطات العراقية. وناشد ممثلو لجنة الشؤون الخارجية في البرلمان العراقي رئيس الوزراء محمد شياع السوداني، مطالبين بتقييم مدى تأثير تدفق مقاتلي حزب العمال الكردستاني على الأمن القومي.
ويُمكن تحديد العوامل التي تكشف عن الخطوات القادمة لتركيا وسياق الوضع الراهن: أسباب الإبقاء على الوجود العسكري: إن تمديد التفويض العسكري والتردد في سحب القوات، رغم إعلان الانتصار على حزب العمال الكردستاني، مدفوعان بأسباب أعمق من مجرد مكافحة الإرهاب. ترى أنقرة أن المنشآت العسكرية التركية في سوريا والعراق أصول استراتيجية تُمكّنها من ممارسة نفوذها في التنافس الإقليمي. ويُنظر إلى الانسحاب الكامل من هذه المواقع على أنه خسارة مباشرة للنفوذ والمكانة. علاوة على ذلك، تُشير السلطات التركية إلى تهديدات مستمرة، مثل خطر عودة ظهور تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) ووجود فصائل داخل حزب العمال الكردستاني قد تُواصل المقاومة المسلحة توسيع النفوذ التركي من خلال التعاون مع دمشق. ومن أهم مجالات "إعادة التشكيل" تعزيز التحالف العسكري-السياسي مع الحكومة الانتقالية الجديدة في سوريا. فقد وقّع الطرفان في 13 آب 2025، اتفاقية للتعاون العسكري والعسكري-التقني. وكجزء من هذه الاتفاقية، التزمت أنقرة بتدريب جيش سوري جديد قائم على جماعة هيئة تحرير الشام (المحظورة في روسيا)، وتزويدها بأسلحة حديثة، بما في ذلك المركبات المدرعة والطائرات المسيرة وأنظمة الدفاع الجوي. والهدف الرئيسي لتركيا من هذه الشراكة هو إنشاء قوة موالية قادرة، على وجه الخصوص، على حل القضية الكردية. وتأمل أنقرة في استخدام الجيش السوري الجديد لتوسيع "المنطقة العازلة" على طول الحدود عبر المناطق المكتظة بالأكراد.
هواجس انقرة من تطورات القضية الكردية والتناقضات الإقليمية. فعلى الرغم من تفكك حزب العمال الكردستاني، ما يزال العامل الكردي رئيسا في استراتيجية أنقرة. وما تزال السلطات التركية تنظر إلى الأكراد السوريين وقوات سوريا الديمقراطية كتهديد، خشية أن يصبح حكمهم الذاتي مثالًا يُحتذى به لأكراد تركيا. في هذه الأثناء، يستمر القتال في شمال شرق سوريا.
حسب المعلومات المتاحة تجري حاليًا عملية دمج القوات الكردية في الجيش السوري الجديد، وهي عملية معقدة، وقدمت قوات سوريا الديمقراطية. في نهاية تشرين الأول، للتحالف الدولي قائمة تضم حوالي 70 من قادتها للانضمام إلى الجيش السوري الجديد. ووفقًا للخطط، يمكن أن يشغل القادة الأكراد ما يصل إلى 30% من المناصب في هيئة الأركان العامة الجديدة. إلا أن هذه العملية محفوفة بصراعات جديدة، إذ قد تضغط أنقرة على دمشق لمنع تعزيز النفوذ الكردي داخل القوات المسلحة الموحدة.
وعلى هذا النحو، فإن "إعادة هيكلة" الوجود العسكري التركي تتضمن الانتقال من المواجهة المباشرة مع حزب العمال الكردستاني إلى استراتيجية أكثر شمولًا تجمع بين الردع العسكري، والنفوذ السياسي العميق في دمشق، ومواجهة الحكم الذاتي الكردي تحت ذرائع جديدة. والهدف الرئيسي هو تعزيز النفوذ المكتسب ومنع الأكراد من اكتساب القوة، وبالتالي ضمان استمرار دور تركيا كلاعب رئيسي في مستقبل سوريا والعراق.
الى جانب ذلك تُوسّع تركيا أيضًا حضورها، في مختلف انحاء العراق. وتُهيمن شركات البناء التركية بالفعل على عقود إعادة إعمار الموصل بعد الدمار الذي خلّفه تنظيم داعش،)، بينما يستمر تعاون أنقرة الأمني مع بغداد وأربيل، رغم قرار حزب العمال الكردستاني حلّ نفسه، مركزا على ضبط الحدود، ومحاربة الجماعات المنشقة، ومخيمي اللاجئين في سنجار ومخمور. ويهدف مشروع طريق التنمية التركي العراقي، الذي تبلغ تكلفته 17 مليار دولار (بدعم من قطر والإمارات العربية المتحدة)، إلى إنشاء ممر تجاري يربط ميناء الفاو على الخليج العربي بتركيا وأوروبا، مما يُحوّل العراق إلى مركز عبور حيوي.
• استفادت المادة من تقارير وسائل الاعلم الروسية.










