ستار كاووش
حين بدأ الانسان بالرسم على جدران الكهوف قبل حوالي أربعين ألف سنة، كان يهدف بذلك الى السيطرة على الحيوانات التي يريد اصطيادها ويجعلها قريبة وسهلة المنال. وقد نفَّذَ تلك الرسومات ببعض الأحجار الطباشيرية ودماء الحيوانات ذاتها التي يصطادها، ثم إنتبه بعدها إلى أن الكهف الذي يعيش فيه قد صار جميلاً وممتعاً من خلال هذه الرسومات التي تزينه، فصارت جدران الكهف كأنها مغطاة (بورق جدران)، أو كأنها مكاناً لعرض اللوحات. مرَّتْ سنوات طويلة جداً على ذلك ولم نعرف من هم أولئك (الفنانين) المجهولين الذين إنبثقوا من فراغ التاريخ البعيد ليصنعوا لنا البداية الحقيقية للرسم، فهم لم يكتبوا أسماءهم على أي جدار من تلك الجدران المكتظة بالرسومات، وربما لم تكن لهم أسماء أصلاً. مرَّتْ آلاف السنوات الأخرى حتى ظهر الفن العراقي القديم، كذلك الفن المصري، ولم يكتب أيضاً أحداً إسمه على الأعمال الفنية المذهلة. ومضى ذلك الوقت البعيد أيضاً، لتظهر مدرسة بغداد للرسم في القرن الثالث عشر، حيث كانت المخطوطات تُزيِّن برسومات فريدة، وبألوان جميلة وخطوط منسابة بترف ونعومة قلَّ مثيلها، وهنا لم يكتب الفنانون أسماءهم على تلك الرسومات، حتى انبرى يحيى ابن محمود الواسطي لهذا الأمر وذَيَّلَ رسوماته لمقامات الحريري بإسمه، لنتعرف بذلك على إسم فنان عظيم قدم اعمالاً تشبه الكنوز. وفي ذات الوقت تقريباً بدأ فن الأيقونات في أوروبا بالظهور والتي غلب عليها الطابع الديني، ولم تُكتب أسماء الفنانين على هذه الأيقونات التي ظلَّتْ تُنسب لفنانين مجهولين.
بمرور الوقت بدأت أسماء الفنانين تظهر شيئاً فشيئاً على الأعمال الفنية التي تحولت الى إنجازات فردية بعد أن كانت جمعية ولا يمكن تمييز أصحابها. وهكذا تعرفنا خلال بضعة قرون على أسماء عظيمة في عالم الفن، حتى جاء القرن التاسع عشر وظهرت الانطباعية، فعادَ الفنانون الى رسم لوحات متقاربة يصعب تمييزها أحياناً لأنها اعتمدت على أسلوب واحد وألوان متقاربة وتقنية متماثلة، واستمر الوضع مع التكعيبية التي يصعب فيها تمييز لوحات بيكاسو عن لوحات براك على سبيل المثال، وهكذا الحال مع الكثير من المدارس والجماعات الفنية. ليمضي الفن بعدها نحو الحداثة أكثر ويعود ليصبح فردياً بإمتياز، حيث كل فنان له طريقته الخاصة ومعالجاته وموضوعاته والزاوية التي ينظر من خلالها الى الموضوع. لكن هذا الأمر لم يستمر طويلاً أيضاً، حيث جاءت أيامنا هذه وتحوَّلَتْ الحياة كلها الى ما يشبه الكمبيوتر الكبير أو قرية مربوطة بأسلاك كمبيوتر يتحكم بكل شيء، فعادَ الفنانون من جديد الى المشاعية التي ليست لها حدود، حيث يمكنك الآن أن ترسم ما تريد من خلال الذكاء الاصطناعي، وبأي أسلوب تحبه وأي موضوع تفكر به مهما كان شائكاً، ولا يتطلب القيام بذلك سوى بضع ثوانٍ!
يا لقسوة المفارقة، فقبلَ أربعين ألف سنة رسم الإنسان الحيوانات القوية الجامحة العنيفة، لتأتي في النهاية (فأرة) الكمبيوتر لتحطم كل هذا التاريخ العظيم!
والتساؤلات الجوهرية هنا: هل مات الفن حقاً؟ وهل لفضت اللوحة أنفاسها الأخيرة؟ هل سينقطع طريق الفن بعد أن سدَّتهُ جَرّافات التكنولوجيا؟ هل انتهى عصر الفنان الذي يقول كلمته الشخصية من خلال لوحاته الحقيقية التي يرسمها حيث يقضي أياماً في مغامراته الجمالية التي تقوده الى تكوينات جميلة وتناغمات مبتكرة وخطوط تتقاطع بإيقاعات خاصة وتوازنات مؤثرة؟
تُرى أين سيذهب الفنان، وهل ستُغلِقَ أكاديميات الفنون أبوابها؟ هل ستُطفيء صالات الفن أضواء معارضها؟ وما هو مصير المتاحف الموجودة الآن في كل أرجاء المعمورة؟ لماذا يذعن الفن وينصاع صاغراً وبكل سهولة الى خطر الزوال؟ أحقاً أن أربعين ألف سنة من الرسم ستذهب سدى أمام الذكاء أم الغباء الذي اخترعه الإنسان؟!










