TOP

جريدة المدى > خاص بالمدى > المال السياسي يغزو الفضاء الرقمي ويقوض عدالة المنافسة!

المال السياسي يغزو الفضاء الرقمي ويقوض عدالة المنافسة!

نشر في: 5 نوفمبر, 2025: 12:11 ص

بغداد / تبارك عبد المجيد
في مشهد انتخابي يزداد ضبابية، تحولت الدعايات الممولة على مواقع التواصل الاجتماعي إلى أحد أكثر مظاهر الفساد الانتخابي وضوحاً، بعدما بات المال هو الذي يحدد حجم الظهور والتأثير لا الكفاءة أو البرنامج. وتشير بيانات حديثة إلى إنفاق تجاوز المليون دولار خلال شهر واحد فقط على الإعلانات السياسية في العراق، في مؤشر على تفاقم الفجوة بين المرشحين وقدرة رأس المال على توجيه الرأي العام بعيداً عن المنافسة العادلة.
إنفاق مرتفع في بغداد
في غضون ثلاثين يوماً فقط، تجاوز الإنفاق على الإعلانات الدعائية للمرشحين في العراق حاجز المليون و400 ألف دولار، بحسب بيانات شركة "ميتا" المالكة لفيسبوك وإنستغرام وواتساب، حيث سجلت بغداد أعلى معدلات الإنفاق، قدرُه 342 ألفاً و573 دولاراً، تلتها نينوى بـ120 ألفٍ و574 دولاراً، فيما كانت أدنى الأرقام في حلبجة التي لم تتجاوز 3 آلاف و961 دولاراً.
أما المحافظات الأخرى فجاءت أرقامها متفاوتة: السليمانية 81 ألفاً و458، البصرة 80 ألفاً و238، ذي قار 77 ألفاً و290، بابل 74 ألفاً و461، أربيل 72 ألفاً و570، النجف 71 ألفاً و672، ديالى 63 ألفاً و318، كركوك 48 ألفاً و981، صلاح الدين 46 ألفاً و660، الديوانية 46 ألفاً و208، كربلاء 44 ألفاً و516، واسط 42 ألفاً و24، الأنبار 37 ألفاً و643، ميسان 35 ألفاً و165، دهوك 32 ألفاً و827، والمثنى 30 ألفاً و844 دولاراً.
تُظهر البيانات أن مجموع ما أُنفق على الإعلانات السياسية الممولة خلال الفترة الممتدة من 24 أيلول إلى 23 تشرين الأول 2025 بلغ مليوناً و424 ألفاً و963 دولاراً، بينها 473 ألف دولار صُرفت خلال أسبوع واحد فقط من ذروة الحملة الانتخابية من 17 إلى 23 تشرين الأول.
من بين الجهات التي أنفقت مبالغ كبيرة على رعاية المنشورات الانتخابية، تصدّرت صفحة حركة حقوق التابعة لكتائب حزب الله القائمة بإنفاق قدره 13 ألفاً و590 دولاراً، تلتها صفحة محمود حسين بـ12 ألفاً و611 دولاراً، ثم حركة حقوق – البصرة بـ12 ألفاً و577 دولاراً.
وفي المراتب التالية جاءت تحالف صقورنا وإعلام صقورنا بإنفاق متقارب بلغ 10 آلاف و836 دولاراً لكل منهما، ثم حقوق – بغداد بـ8 آلاف و984 دولاراً، تلتها صقورنا – ديالى بـ8 آلاف و734 دولاراً، ثم صفحة نوري المالكي بـ8 آلاف و502 دولاراً، وصفحة نوري أحمد رحيم الشمري المرشح عن قائمة السوداني بـ7 آلاف و369 دولاراً، وأخيراً ائتلاف صادقون – البصرة بـ7 آلاف و20 دولاراً.
ورغم أن أحزاب الإقليم، خصوصاً الحزب الديمقراطي الكوردستاني والاتحاد الوطني الكوردستاني، خصصت جزءاً كبيراً من حملاتها للمنصات الاجتماعية، إلا أن حجم الإنفاق ظل أقل مقارنة بالأحزاب الأخرى.
سجلت بناس دوسكي، مرشحة الديمقراطي الكوردستاني في دهوك، أعلى إنفاق في الإقليم بـ5 آلاف و803 دولارات، تلتها صفحة بريار رشيد، مرشح الاتحاد الوطني في السليمانية، بألفين و561 دولاراً، فيما أنفق مرشحون آخرون أقل من 1500 دولار لكل حملة.
وفي سياق متصل، أعلنت شركة "ميتا" في 20 تشرين الأول 2025 أنها ستوقف بيع وعرض المنشورات ذات المحتوى السياسي في جميع أنحاء أوروبا، تماشياً مع قانون النزاهة والإعلانات السياسية (TTPA) الصادر عن الاتحاد الأوروبي، والذي يلزم المنصات بكشف هوية الممول والمبلغ المدفوع وطبيعة الجمهور المستهدف قبل عرض أي إعلان.
لكن في العراق وإقليم كوردستان، ما زالت الحملات الدعائية عبر الإنترنت تجري دون رقابة حقيقية أو قواعد واضحة تنظم الإعلانات السياسية الممولة، ما يترك المجال مفتوحاً أمام الإنفاق غير المراقب والتأثيرات الرقمية في سلوك الناخبين.
غياب المنافسة العادلة!
يقول الباحث الاقتصادي عبد الله نجم إن المال الانتخابي في العراق تحول إلى أداة لتكريس الفوارق الطبقية والسياسية بين المرشحين، مبيناً أن "الاعتماد المفرط على الدعاية الممولة في المنصات الاجتماعية يعكس خللاً واضحاً في عدالة المنافسة الانتخابية".
وأضاف نجم لـ"المدى" أن "جزءاً كبيراً من الأموال التي تُصرف اليوم على الحملات الرقمية هو في الأصل مال عام مستتر، يأتي من مؤسسات وأحزاب تمتلك نفوذاً في الدولة، وتعيد ضخّه في السوق الإعلامي عبر صفحات وشركات تسويق تعمل لصالحها".
ويرى أن هذا النمط من الإنفاق لا يعبر فقط عن استغلال للمال العام، بل يمثل أيضاً تشويهاً متعمداً لإرادة الناخبين، إذ تتكرر الإعلانات السياسية لمرشحين بعينهم عشرات المرات في اليوم الواحد، بينما لا يمتلك آخرون حتى ميزانية لصورة واحدة على جدار أو إعلان ممول بسيط.
وأشار نجم إلى أن "الفارق الهائل في ظهور المرشحين عبر مواقع التواصل الاجتماعي خلق بيئة انتخابية غير متكافئة، حيث أصبحت الحملات تُقاس بعدد المشاهدات والتفاعلات لا بالبرامج والمشاريع"، لافتاً إلى أن هذه الظاهرة "دفعت العديد من المرشحين المستقلين أو محدودي التمويل إلى الانسحاب المبكر أو الاعتماد على أساليب تقليدية لا تحقق أي أثر يُذكر".
ويؤكد أن لجوء المرشحين إلى السوشيال ميديا بهذه الكثافة سببه ضعف ثقة الجمهور بالإعلام الرسمي والتقليدي، إضافة إلى أن المنصات الرقمية تتيح استهدافاً مباشراً للناخبين الشباب، ما يجعلها أكثر تأثيراً وأقل كلفة مقارنة بالحملات الميدانية الواسعة.
لكن المشكلة، بحسب نجم، تكمن في أن من يملك المال هو من يملك الصوت الأعلى على الإنترنت، مضيفاً أن "هذا الوضع يقوض مبدأ تكافؤ الفرص في المنافسة السياسية، ويجعل العملية الانتخابية تدور في فلك من يملكون القدرة على الدفع، لا من يملكون الكفاءة والبرنامج".
تقترب د. طاهرة داخل، المرشحة عن تحالف البديل، من سرد تجربتها في الانتخابات. وتقول لـ"المدى"، إنها لم تلجأ إلى أي ترويج شخصي أو دعايات عبر صفحاتها أو وسائل الإعلام، وإنما اقتصر عملها على طباعة برنامجها الانتخابي وبطاقات التعريف التي تحملت تكلفتها بنفسها.
وفي حين تولى التحالف مهمة إعداد اللوحات والجداريات الخاصة بالحملة، توضح طاهرة أن البطاقات التي طبعها كانت ضعيفة الجودة، مما دفعها إلى طباعة أربعة آلاف بطاقة إضافية على نفقتها الخاصة لتحسين مستوى الحملة الدعائية.
أما من حيث التمويل، فتقول إنها حصلت على مبلغ محدود من التحالف، استثمرته قدر الإمكان في تنظيم مؤتمرات نسوية ورجالية، إلى جانب لقاءات ميدانية مع الناخبين، مع تحملها أغلب مصاريف التنقل والمواصلات.
وعلى صعيد أوسع، تتحدث طاهرة داخل عن واقع المنافسة الانتخابية، وتصفه بأنه يفتقر إلى العدالة، خاصةً بسبب استغلال المال العام وموارد الدولة من قبل بعض المرشحين. وتشير إلى أن هذا الاستغلال يُحدث فجوة مالية كبيرة بين المرشحين، ما يُعطل وجود منافسة نزيهة وعادلة.
وتضيف: "لا توجد عدالة حقيقية في السباق الانتخابي، لأن بعض المرشحين يستغلون المال العام وموارد الدولة في حملاتهم. هذا الاختلاف في الدعم المالي يخلق فجوة واضحة ويجعل المنافسة غير متكافئة".
وتؤكد طاهرة أن حملتها قامت على جهد شخصي ودعم شعبي حقيقي، بعيد عن الدعاية المدفوعة، موضحة أن الخطاب الصادق والقريب من الناس كان هو السبب الرئيسي وراء التفاعل الواسع الذي شهدته حملتها.
"أفسد الحملات الانتخابية"!
ويذكر المحلل السياسي محمد زنكنة إن العراق يعيش اليوم واحدة من أفسد الحملات الانتخابية في تاريخه الحديث، واصفاً المشهد الانتخابي بأنه نموذج صارخ لتغلغل المال السياسي وتوظيفه في خدمة فئات محددة، بعيداً عن مصلحة المواطن أو إعادة إعمار البلاد.
وأضاف زنكنة لـ"المدى"، أن ما يجري في هذه الانتخابات "يمتد من بغداد إلى أقصى نقطة في الحدود الجنوبية"، مؤكداً أن بعض الأحزاب في المحافظات الغربية تحالفت مع الميليشيات ومع شخصيات سياسية نافذة، في إشارة إلى تحالفات مرتبطة بالمالكي وغيره من القوى المتنفذة.
وأوضح أن هذه التحالفات تكشف بما لا يدع مجالاً للشك أن المبالغ الطائلة التي تُصرف على الحملات الانتخابية يمكن أن توازي، أو حتى تتجاوز، الميزانيات المطلوبة لإعادة إعمار ربع إلى نصف مدن الجنوب، فضلاً عن تمويل مشاريع سياحية وتنموية مهمة، مثل مشاريع تطوير الأهوار المسجلة على لائحة التراث العالمي، أو إعادة إعمار مناطق نازحي سنجار وعودتهم إلى ديارهم.
وأشار زنكنة إلى أن قضايا غسل وتبييض الأموال تلعب دوراً خطيراً في هذا الملف، مؤكداً وجود "منظمات سرية" متورطة في تحويل وتمويل هذه الأموال، وأن جزءًا كبيرًا من التمويل يأتي من خارج العراق، في وقت تتضاعف فيه القروض الداخلية والخارجية للدولة العراقية.
ويحذر زنكنة من أن الخطر الأكبر لا يكمن في الفساد المالي وحده، بل في ضياع المعنى الحقيقي للديمقراطية، متسائلاً: "كيف يمكن أن تتحقق الديمقراطية في ظل تصرفات كهذه؟"، مضيفاً أن المال العام الذي يُفترض أن يُستثمر في إعمار البلاد وتحسين حياة العراقيين، يُسخّر لخدمة فئات محددة تدير العملية السياسية وتتحكم في مسارها "مالياً وسياسياً".
وتابع أن هذه الأموال تُستثمر في شراء السلاح وتمويل عمليات تجارية مشبوهة، إلى جانب تقديم وعود انتخابية وهمية ودعم بعض الشخصيات التي لا علاقة لها بالعملية الانتخابية نفسها. كما لفت إلى أن الميليشيات المدعومة من الخارج أصبحت لاعبًا رئيسيًّا في هذا المشهد، من خلال تمويل ودعم سياسيين كبار يتحكمون بالوضع الداخلي، رغم أن "قرارَهم الحقيقيَّ يأتي من الخارج".
وأضاف زنكنة بالتأكيد على أن استمرار هذه الممارسات سيقود إلى إفراغ العملية الديمقراطية من مضمونها، مطالباً بفتح ملفات التمويل السياسي، والتحقيق في مصادر الأموال الانتخابية، ووضع ضوابط قانونية صارمة لمنع استخدام المال العام والتمويل الخارجي في التأثير على إرادة الناخبين.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق الدولي للكتاب

مقالات ذات صلة

لا حسم في

لا حسم في "الإطار": الملف البرتقالي يخرج بلا مرشحين ولا إشارات للدخان الأبيض

بغداد/ تميم الحسن أصبح "الإطار التنسيقي" يبطئ خطواته في مسار تشكيل الحكومة المقبلة، بانتظار ما يوصف بـ"الضوء الأخضر" من واشنطن، وفق بعض التقديرات. وفي المقابل، بدأت أسماء المرشحين للمنصب الأهم في البلاد تخرج من...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram