TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > بين انضمام العراق إلى منظمة التجارة العالمية وسياسات ترامب الحمائية: مفارقة استراتيجية

بين انضمام العراق إلى منظمة التجارة العالمية وسياسات ترامب الحمائية: مفارقة استراتيجية

نشر في: 6 نوفمبر, 2025: 12:01 ص

د.سهام يوسف علي

بعد مسيرة تفاوضية امتدت منذ عام 2004، يقترب العراق في أواخر عام 2025 من إنهاء مفاوضات الانضمام إلى منظمة التجارة العالمية. غير أن السؤال الجوهري يبقى مطروحًا: ما جدوى انضمام بلدٍ لا يمتلك قاعدة إنتاجية حقيقية، ولا صناعة وطنية قادرة على المنافسة، ويعتمد بصورة شبه مطلقة على الإيرادات النفطية؟
بحسب مدير عام الشركة العامة لتجارة الحبوب حيدر نوري الكرعاوي، فإن الانضمام سيمنح العراق مزايا متعددة، منها حماية المنتجات الوطنية والمستوردة، وتسهيل التبادل التجاري والجمركي، وجذب الاستثمارات الأجنبية، فضلاً عن خفض الأسعار عبر تعزيز المنافسة وتنظيم الأسواق. كما يشير إلى أن استكمال الملفات التشريعية والفنية المطلوبة سيزيد من ثقة الشركات العالمية بالسوق العراقية.
الواقع يؤكد أن الانضمام إلى منظمة التجارة ليس خطرًا بحد ذاته، لكنه يصبح كذلك حين يتم من دون استعداد مؤسسي أو قدرة إنتاجية داخلية. ف الدول لا تنجح في النظام التجاري العالمي إلا حين تمتلك منتجات وخدمات يمكنها المنافسة بها، لا حين تكتفي بفتح أسواقها أمام الآخرين.
منذ عام 2004 وحتى اليوم، لم يتمكن العراق من بناء قطاع زراعي أو صناعي مستدام، بل تحوّل إلى اقتصاد استهلاكي يستورد كل شيء، من المواد الغذائية إلى المعدات التقنية. فكيف يمكن لمثل هذا الاقتصاد أن يواجه منافسة مفتوحة في سوق عالمية تحكمها قواعد صارمة وتتحرك فيها القوى الكبرى وفق مصالحها الوطنية؟
وهنا يبرز مشهدٌ عالمي لافت: تبنت الولايات المتحدة — صاحبة أكبر اقتصاد في العالم — سياسة حمائية واسعة في إطار توجهات الرئيس دونالد ترامب في ولايته الثانية. فرضت رسوماً جمركية بحد أدنى 10٪ على جميع الواردات، وصلت في بعض القطاعات إلى 25-50٪، وشملت سلعاً من أكثر من 60 دولة، بما فيها شركاؤها التجاريون الرئيسيون. كما أعادت واشنطن فرض رسوم بنسبة 25٪ على واردات الصلب والألمنيوم، حمايةً لقاعدتها الصناعية.
إذا كانت واشنطن — بكل قوتها الصناعية والتكنولوجية — تلجأ اليوم إلى الحماية التجارية دفاعاً عن مصالحها، فكيف يُطلب من العراق أن يخوض سباق المنافسة العالمية من دون أي أدوات دعم أو فترات انتقالية واقعية؟
تجارب الدول الأخرى تقدّم دروسًا واضحة. فالسعودية، قبل انضمامها عام 2005، نفذت سلسلة إصلاحات في بيئة الأعمال، وحررت قطاعات الاتصالات والخدمات المالية، ووسعت قاعدة إنتاجها الصناعي والطاقة غير النفطية. أما فيتنام، فقد استغلت مفاوضات الانضمام لبناء قاعدة صناعية متينة، جذبت استثمارات ضخمة في الإلكترونيات والمنسوجات، لتتحول من بلد زراعي فقير إلى مركز صناعي إقليمي. في المقابل، دول أخرى دخلت المنظمة دون استعداد كافٍ فواجهت انهيار صناعاتها المحلية أمام سلع أرخص وأكثر جودة.
الانضمام بالنسبة للعراق يمكن أن يكون فرصة لإعادة هيكلة الاقتصاد إذا ما وُجه ضمن إستراتيجية إصلاح واقعية. فالقواعد التي تفرضها المنظمة — من شفافية الإجراءات الجمركية، إلى الحد من الدعم غير الموجه، إلى حماية المستهلك — قد تخلق ضغطًا إيجابيًا باتجاه إصلاح منظومة الاقتصاد من الداخل، بشرط أن تتوافر الإرادة السياسية لذلك.
لكن الخطر الأكبر يبقى في أن يتحول العراق إلى "سوق مفتوحة بلا إنتاج"، أي إلى مستودع للسلع الأجنبية دون قدرة وطنية على توليد القيمة. نجاح التجربة مرهون بثلاثة شروط أساسية:
1. إستراتيجية واضحة لبناء القطاعات الإنتاجية، مع دعم انتقائي ومدروس للزراعة والصناعة الوطنية.
2. إصلاح مؤسسي فعلي يحد من الفساد ويُبسط الإجراءات الجمركية والاستثمارية.
3.استثمار جاد في البنية التحتية للطاقة والنقل والتعليم كشرط أساسي لرفع كفاءة الإنتاج.
في المحصلة، انضمام العراق إلى منظمة التجارة العالمية ليس غاية بحد ذاته، بل اختبار لقدرة الدولة على الانتقال من الريع إلى الإنتاج. فإما أن يكون الانضمام بوابة لإصلاح اقتصادي حقيقي، أو يتحول إلى خطوة جديدة في طريق الارتهان للأسواق الخارجية. والفرق بين الحالتين تحدده الإرادة في الداخل، لا القواعد في جنيف.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق الدولي للكتاب

الأكثر قراءة

العمود الثامن: الغرابي ومجزرة جسر الزيتون

العمود الثامن: نون النسوة تعانق الكتاب

العمود الثامن: مسيرات ومليارات!!

ثقافة إعاقة الحرية والديمقراطية عربيا

"دبلوماسية المناخ" ومسؤوليات العراق الدولية

العمود الثامن: نصف قرن من التفوق

 علي حسين في مثل هذه الأيام، وبالتحديد في الثاني من كانون الاول عام 1971، أعلن الشيخ زايد عن انبثاق اتحاد الامارات العربية، وعندما جلس الرجل البالغ آنذاك خمسين عاماً على كرسي رئاسة الدولة،...
علي حسين

كلاكيت: في مديح مهند حيال في مديح شارع حيفا

 علاء المفرجي ليست موهبة العمل في السينما وتحديدا الإخراج، عبئا يحمله مهند حيال، علّه يجد طريقه للشهرة أو على الأقل للبروز في هذا العالم، بل هي صنيعة شغف، تسندها تجربة حياتية ومعرفية تتصاعد...
علاء المفرجي

البَصْرة.. لو التَّظاهرُ للماء والنَّخيل!

رشيد الخيّون تظاهر رجال دين بصريون، عمائم سود وبيض، ضد إقامة حفلات غنائيَّة بالبصرة، على أنها مدينة شبه مقدسة، شأنها شأن مدينتي النَّجف وكربلاء، فهي بالنسبة لهم تُعد مكاناً علوياً، لِما حدث فيها من...
رشيد الخيون

الانتخابات.. بين صراع النفوذ، وعودة السياسة القديمة

عصام الياسري الانتخابات البرلمانية في العراق (11 نوفمبر 2025) جرت في ظل بيئة أمنية نسبيا هادئة لكنها مشحونة سياسيا: قوائم السلطة التقليدية حافظت على نفوذها، وبرزت ادعاءات واسعة النطاق عن شراء أصوات وتلاعبات إدارية،...
عصام الياسري
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram