علاء المفرجي
- 1 -
لم تعد المدينة مجرد خلفية تدور فيها أحداث الأفلام، بل أصبحت شخصية حقيقية، تتنفس وتغضب وتغوي. فمنذ بدايات السينما، كانت الكاميرا مفتونة بالمدينة: بالشوارع المزدحمة، بالأنوار المتلألئة، وبالوجوه التي تعبر سريعًا كظلالٍ عابرةٍ في مرآة الحياة. لكن مع الزمن، تغيّرت ملامحها كما تغيّر الإنسان الذي يسكنها. في الخمسينيات والستينيات، كانت المدينة في السينما العربية مساحةً للحلم.
لم تحضر بغداد في السينما كبطولة مكان أو كموضوعٍ متكامل، فبعد أكثر من ستة عقودٍ وأكثر من مئة فيلمٍ بقليل، لم تحظَ بغداد كمكانٍ في الأفلام العراقية بالأهمية التي نتمنى، واقتصر حضورها كديكورٍ خلفيٍّ يمكن الاستغناء عنه بمكانٍ آخر، بمعنى أنه كمكانٍ لم يتداخل وموضع الفيلم، مثلما لم تنفعل الشخصيات والأحداث بالمكان الذي يمارس بدوره تأثيرًا بوصفه شخصيةً لها أبعادها وامتداداتها الاجتماعية والثقافية بالشخصية أو الحدث.
وباستعراضٍ سريعٍ للأفلام العراقية سنجد أنه حتى هذا الحضور السلبي، بمعنى غير المؤثر، لم تتوافر عليه الغالبية العظمى من الأفلام العراقية، حتى تلك التي تدور أحداثها في هذه المدينة.
وكان يمكن لبغداد كمكانٍ أن تأخذ حقها السينمائي -إن صحّت التسمية- بالطريقة التي خضعت بها روما لموشور فيلليني من خلال عددٍ من أفلامه وربما في أكثر أفلامه، حيث ينجلي التاريخ تارةً، والعلاقات الاجتماعية تارةً أخرى، بل وحتى جغرافية المدينة وشواخصها التاريخية.
أو كما أخذت نيويورك من اهتمام مخرجٍ عبقريٍّ آخر هو سكورسيزي، فمعه ذهبنا إلى ما قبل أكثر من مئتي عامٍ عندما كانت المدينة (أعني هنا نيويورك) نهبًا لعصابات القتل والتناحر المذهبي والعرقي، ومعه أيضًا تجوّلنا في شوارعها الخلفية ووقفنا عند حاضنة الجرائم، ومع الملل والأقوام القادمة من كل بقاع الأرض، فعايشنا في كيتواتها تقاليد وأصولًا وثقافاتٍ، ومع سكورسيزي أتعبنا النظر إلى الأعلى، حيث الأبنية تخترق السحب، وبالطريقة نفسها اصطحبنا وودي ألن في عالم هوليوود، المدينة والنساء والشهرة وأيضًا الدسائس.
ولكن لم ينل مخرجٌ سينمائيٌّ شرف أن يحفر في تاريخ بغداد أو يبرز سحنة أبنائها، أو يقف عند نسيجها الاجتماعي أو يستنطق شواخصها أو يوثّق رموزها. ونحن نتحدث هنا عن السينما الروائية، ذلك أن السينما الوثائقية حاولت الاقتراب من كل ما ذكرنا، لكنها لم تقنعنا جماليًا أو فكريًا، إلا باستثناءاتٍ قليلة، وربما يَسْتَثني هذا الاستثناء رائعة بسّام الوردي ورياض قاسم (حكاية للمدى)، حيث شواكة كرخ بغداد رمزٌ من رموزها الشامخة (يحيى جواد).
وفي جردةٍ سريعةٍ لبعض الأفلام العراقية على امتداد تاريخ الفيلم العراقي، نستطيع أن نقف على حضور المدينة وإن بشكلٍ ديكوريٍّ كما أسلفنا: فيلم (القاهرة - بغداد) الذي أخرجه أحمد بدرخان بإنتاجٍ مشتركٍ مع مصر، صُوِّرت مشاهد قليلة منه في بغداد، لكننا في فيلم (مَن المسؤول) المنتج عام 1975 بتوقيع المخرج عبد الجبار توفيق ولي، عن روايةٍ للكاتب العراقي الرائد أدمون صبري، نقف عند صورةٍ جميلةٍ لبغداد في عقد الخمسينيات، تتجلى منها تفاصيل اجتماعية واقتصادية كثيرة. والأمر ينطبق أيضًا على فيلم (سعيد أفندي) للمخرج كاميران حسني، واختار المخرج الراحل عبد الهادي مبارك تصوير أغلب مشاهد فيلمه (عروس الفرات) عام 1958 في مناطق مختلفة من بغداد.
لكننا مع فيلم (الجابي) للمخرج جعفر علي، نتعرف على تفاصيل الحياة اليومية في بغداد الستينيات، حيث نماذج بشرية مختلفة تلتقي في (باص) للنقل الداخلي، وهو فيلمٌ حاول التقاط صورةٍ لشكل العلاقات خلال تلك الفترة.
وبسبب موضوع الرواية المعالجة، وهي رواية (خمسة أصوات) للروائي الكبير غائب طعمة فرمان، فإن فيلمه (المنعطف)، الذي أخرجه جعفر علي وكتب السيناريو والحوار له نجيب عربو مع الشاعر صادق الصائغ، هو أكثر الأفلام العراقية التي تتجلى بها المدينة مكانًا وحدثًا. فمن خلال الشخصيات الخمس في الفيلم نتعرف على الملامح السياسية والاجتماعية والاقتصادية للمدينة.
نخلص إلى أن بغداد لم تكن كمكانٍ وحدثٍ موضوعًا لفيلمٍ عراقيٍّ على الطريقة التي استعرضنا بها أفلامًا لمدنٍ حملت تواقيع مخرجين كبار.









