ترجمة المدى
مع تواصل الحرب الأهلية في السودان بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، تفيد المؤشرات والتحليلات بأن العنف الدائر منذ نيسان 2023 قد يتصاعد أكثر ويصعب إيقافه، فهي ليست حربًا واحدة، بل شبكة من نزاعات تُعزِّز بعضها البعض، تتراوح بين مستوى محلي، ومستوى وطني حول الهوية والسيطرة على موارد الدولة، ومستوى إقليمي تتدخل فيه بلدان مجاورة لضمان مصالحها، ومستوى جيوسياسي ضمن صراع أوسع بين أقطابٍ خليجية للوصول إلى ثروات المعادن الثمينة في البلد وممراتٍ استراتيجية، مما يجعل الوضع ميؤوسًا منه وخارجًا عن السيطرة.
ومن بين من عبّروا عن قلقهم من خروج الوضع في السودان عن السيطرة، الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش. ففي 4 نوفمبر/تشرين الثاني، نُقل عن غوتيريش قوله إن العنف في السودان “يخرج عن السيطرة”، داعيًا إلى وضع حدٍّ له، في ظل دلائل تشير إلى ضعف الرغبة في قبول وقف إطلاق النار الذي اقترحته الولايات المتحدة.
الصراع في السودان هو في الأساس صراع بين جنرالين: عبد الفتاح البرهان من الجيش الوطني السوداني ضد محمد حمدان “حميدتي” دقلو من قوات الدعم السريع. هذه القصة واضحة ومباشرة، لكنها ليست الصورة الكاملة، فهذه ليست حربًا أهلية بسيطة، بل صراع يُخاض في أربعة مستويات مختلفة في آنٍ واحد.
كما أُشير إلى أن قوات الدعم السريع، التي يُزعم أنها مدعومة من دولة الإمارات العربية المتحدة، استولت على مدينة الفاشر في دارفور أواخر أكتوبر بعد حصار دام نحو 18 شهرًا، وأسفر عن سقوط أعداد هائلة من القتلى. وقد نُشرت مقاطع مصوّرة على الإنترنت تُظهر عناصر من قوات الدعم السريع يُطلقون النار على مدنيين، بينهم من كانوا داخل مستشفى الولادة في المدينة، حيث يُعتقد أن المئات قُتلوا. لفهم سبب تقدم قوات الدعم السريع بهذه السرعة، لا يكفي النظر إلى الصراع على السلطة الوطنية. الحرب تُغذّيها أيضًا المظالم المحلية والوطنية التي سبقت حميدتي أو البرهان. في دارفور وكردفان، توجد توترات منذ عقود بين المزارعين المستقرين والمجموعات البدوية، وبين مختلف المجتمعات العرقية، وبين القرى المتنازعة على الأراضي أو موارد المياه. لم تخترع قوات الدعم السريع أو الجيش هذه التوترات، بل قامت بتفعيلها. لذلك، يُفكَّك السودان ليس فقط من الأعلى عبر الصراع على السلطة، ولكن أيضًا من الأسفل بواسطة الجماعات المسلحة التي تمزق الأراضي. في الوقت نفسه، لعبت خطابية الجيش حول دارفور وكردفان في صالح قوات الدعم السريع.
النتيجة أن أجزاءً من السودان تعمل بالفعل وكأنها دول مستقلة تقريبًا. دارفور تحت سيطرة قوات الدعم السريع بحكم الواقع، وأجزاء واسعة من وادي النيل والشمالُ تحت سلطة الجيش، وفي المناطق الطرفية الأخرى تتحكم الحركات المسلحة في أراضيها الخاصة. على الورق، السودان لا يزال دولة واحدة، ولكن في الواقع بدأ يشبه أرخبيلًا من الدول الصغيرة المتنافسة.
تزايد المنافسة الجيوسياسية في القرن الإفريقي
خلال العقد الماضي، أصبح القرن الإفريقي واحدًا من أهم مناطق المنافسة الجيوسياسية. تتنافس الإمارات العربية المتحدة والسعودية وقطر وتركيا على الموانئ والممرات اللوجستية والوصول إلى الأراضي الزراعية، والتأثير على الحكومات، والسيطرة على الموارد الطبيعية. يظهر هذا التنافس على طول البحر الأحمر: من البنية التحتية للموانئ في أرض الصومال وإثيوبيا إلى التنازلات الزراعية في السودان. تقدم إفريقيا ما تفتقده هذه الدول أو لديها منه القليل: الأراضي، والأمن الغذائي، وحتى الموارد الطبيعية، مما يجعل القارة ساحة صراعٍ للتأثير السياسي.
السودان في قلب هذا الصراع. استراتيجيًا، يقع عند مفترق طرق الساحل والصحراء والنيل والبحر الأحمر. لديه احتياطيات من الذهب، وإمكانات زراعية، وساحل طويل، وخاصة بعد سقوط الرئيس عمر البشير، حيث وُجد فراغ سلطوي. بالنسبة للاعبين الخارجيين، يُمثّل السودان نقطة دخول مثالية إلى قلب إفريقيا. أما بالنسبة للأطراف المتحاربة داخليًا، فتشكّل هذه القوى خطوط إمدادٍ حقيقية. الإمارات تُزوّد قوات الدعم السريع بالأسلحة والوقود والدعم اللوجستي مقابل الوصول إلى الذهب الذي يُغسَل في دبي. رسميًا، السعودية محايدة في الصراع السوداني، لكنها عمليًا عززت دعمها الدبلوماسي والاقتصادي للجيش. أما مصر فتدعم الجيش لحماية مصالحها في النيل وخوفًا من عدم الاستقرار على حدودها الجنوبية.
الأمل الوحيد يكمن في جهود محادثات السلام للمجموعة الرباعية التي تشتمل على الولايات المتحدة بمشاركة الإمارات ومصر والسعودية. ولكن هناك أيضًا سبب للتشاؤم، فالنّفوذ الأمريكي في المنطقة تراجع بشكلٍ حاد، وواشنطن تعرف أن الإمارات تُزوّد قوات الدعم السريع بالأسلحة، لكنها لا تتدخّل. العلاقة مع أبو ظبي ذات قيمة استراتيجية عالية، سواء عسكريًا أو اقتصاديًا، وتفضل واشنطن التجاهل بدلًا من فقدان مورد رئيسي للطائرات المسيرة والنفط والاستثمارات. وتأتي التحركات الدبلوماسية المكثفة في ظل تحذيرٍ أطلقته الأمم المتحدة من عدم وجود أي مؤشر على خفض التصعيد، وسط استعدادات واضحة لمعارك جديدة. وتكمن الخطورة في تحذير الأمم المتحدة، ليس في عودة المعارك فقط، بل أيضًا في اتساع رقعتها إلى مناطق جديدة ظلّت حتى وقت قريب بعيدةً عن دائرةِ النار. ورغم الدعوات المتكررة من المجتمع الدولي لوقف القتال والعودة إلى طاولة الحوار، فإن إصرار حكومة البرهان على المضيّ قدمًا بخيار القوة يُبقي الميدانَ مشتعلًا، ويزيد المشهد الإنساني قتامةً يومًا بعد آخر.
الحروب لا تنتهي طالما أنها تُحقق مكاسب، وفي السودان الحرب بالتأكيد تجلب مكاسب: اقتصاديًا وعسكريًا وجيوسياسيًا، على المستويات المحلية والإقليمية والدولية. النتيجة هي حرب تستمر في تغذية نفسها، ولكن الأرباح تذهب فقط إلى الأطراف المتصارعة. يدفع المدنيون الثمن، ومعاناتهم أصبحت شبه مستحيلة التعبير عنها بالكلمات، بينما يواصل العالم الالتفات بعيدًا.
وصفت الأمم المتحدة الوضع المأساوي في السودان بأنه واحدة من أسوأ الأزمات الإنسانية في القرن الحادي والعشرين، نتيجة مباشرة للحرب الأهلية المستمرة منذ عامين بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع. كما أُشير إلى أن الحرب أدت إلى مقتل أكثر من 150 ألف شخصٍ وتشريد أكثر من 14 مليون شخصٍ من منازلهم.
عن صحف ووكالات عالمية










