حسن الجنابي
تغيّرت بنية العلاقات الدولية كثيرًا خلال العقود الأخيرة، وحصل تغيّر عميق في طبيعة النظام العالمي نفسه. فبعد انتهاء عصر الإمبراطوريات وبروز مراكز قوى مختلفة، أوروبية عمومًا، خاصة بعد الحرب العالمية الأولى، إلى جانب انتصار الثورة البلشفية الروسية وتأسيس الاتحاد السوفييتي، أفرزت الحرب العالمية الثانية توازنات جيوسياسية وعسكرية جديدة أخرى، تراجعت إثرها أوروبا المسؤولة عن تفجير الحربين العالميتين، وتقدّمت الولايات المتحدة كقوة عظمى في التوازن الدولي بمواجهة الاتحاد السوفييتي، بعد أن كان الطرفان في جبهة واحدة ضد النازية والفاشية أثناء الحرب العالمية الثانية.
تحوّلت العقلية العسكرية الغربية من التحالف من أجل دحر النازية والفاشية إلى العداء المطلق للاتحاد السوفييتي أيديولوجيًا واقتصاديًا وسياسيًا، وأنشئ من أجل ذلك حلف الناتو عام 1949 لتحجيم القوة السوفييتية أو القضاء عليها. وبالطبع، ونتيجة لذلك، أُعلن عن تأسيس حلف وارسو عام 1956 لتحقيق نوع من الردع الاستراتيجي المتكافئ.
برغم العداء المتأصّل في جوهر السياسات بين الطرفين، لعبت الدبلوماسية الرصينة أدوارًا فذّة في تجنيب العالم خطر المواجهات المحتملة التي كان يمكنها إفناءَ العالم بالأسلحة النووية، بعد أن رأى العالم حجم الدمار الهائل في هيروشيما وناغازاكي. فالاستعمال الوحشي للسلاح الذري حصل في وقت كانت اليابان مهزومة دون الحاجة إلى القصف الذري، الذي يُعتقد أنه كان يوجّه رسالة ليس إلى اليابان، بل إلى السوفييت، وكذلك للإعلان عن الدور الأمريكي الجديد في التوازنات العالمية!
ومع ذلك، وبسبب القدرات التدميرية غير المسبوقة للطرفين الأمريكي والسوفييتي، وارتفاع حسّ المسؤولية – نسبيًا – إزاء مصير البشرية، لجأ الطرفان إلى الوسائل الدبلوماسية لترسيخ سياسة التعايش السلمي، وللسيطرة على السلاح النووي ومحاولة منع انتشاره، بل للتخلص منه عن طريق معاهدة عدم الانتشار النووي في نهاية الستينات، حتى في ظل تصاعد حمى الحرب الباردة. وهذا وإن لم يتحقق، إلا أنه مؤشّر كبير على ما يمكن تحقيقه دبلوماسيًا مقارنةً بدمار الحروب والمواجهات العسكرية.
مثّلت الحرب الباردة منعطفًا خطرًا في التاريخ البشري، سادت فيها سياسات متطرفة وعدوانية، ودعمت انقلابات عسكرية وفاشية في الكثير من الأقطار، وقمعت الحركات الشعبية المناوئة للغرب الاستعماري. وبالمقابل، دعم السوفييت الحركات المسلحة الهادفة إلى تحرير العديد من البلدان المستعمَرة. أسهم ذلك في تراجع الدول الأوروبية الاستعمارية مثل بريطانيا وفرنسا وغيرها، وفقدت سيطرتها العسكرية والاقتصادية المباشرة على مستعمراتها.
تكللت الحرب الباردة بهزيمة الاتحاد السوفييتي وتفككه، فاتجه العالم نحو نظام أحادي القطبية تقوده الولايات المتحدة، وألحقت به أوروبا تمامًا، في استقطاب سياسي وأمني واقتصادي، وحوصرت فيه روسيا الجريحة من هزيمة الحرب الباردة وتفكك الاتحاد السوفييتي. لكن العالم لم يصبح أكثر أمنًا.
برزت الدبلوماسية كأداة لتنظيم التوازنات وضبط الصراعات منذ اجتماعات المنتصرين في يالطا، ووضعت حينذاك أسس منظمة الأمم المتحدة كوسيلة تنفيذ.
أما اليوم فقد أصبحت الدبلوماسية تتحرّك وسط نظام عالمي يتفكّك دون أن يولد بديل واضح له. فالمعايير تتضارب، والمصالح الوطنية تطغى على القانون الدولي، وتحولت مناطق عديدة إلى ساحات تنافس مفتوح بين القوى الكبرى من أوكرانيا إلى بحر الصين الجنوبي، ومن الشرق الأوسط إلى أفريقيا وأمريكا اللاتينية، حتى إن دولة عنصرية مثل إسرائيل لم تعد تخفي نواياها الاستعمارية والاستيطانية، ومن على منبر الجمعية العامة للأمم المتحدة.
ومع كل أزمة جديدة، يتضح أن المؤسسات الدولية التي صُممت للحفاظ على السلم والأمن لم تعد قادرة على أداء دورها القديم. فمجلس الأمن مشلولٌ بممارسةِ حقِّ الفيتو، حتى حينَ يتعلّق الأمرُ بإبادةِ مجاميعَ بشريةٍ واستباحةِ سيادةِ دولٍ مستقلةٍ. والجمعية العامة للأمم المتحدة باتت منبرًا للبيانات أكثر منها منصة للحلول، وتراجعت هيبة القانون الدولي أمام منطق القوة والمصالح.
مع ذلك، فلا طريق آخر لتنظيم شؤون العالم سلميًا سوى المسارات الدبلوماسية. وهذه لم تعد كما كانت في القرن العشرين تدور فقط حول قضايا الحرب والسلام أو التحالفات الأمنية والعسكرية، فقد دخلت إلى جدول أعمالها ملفات جديدة تمامًا، تتعلق بمستقبل الكوكب نفسه وبحياة البشر اليومية: المناخ، والبيئة، والطاقة النظيفة، والموارد الطبيعية، والأمن الغذائي والمائي.
ولو كان العالم أكثر عدلًا، فإنّ هذا المنحى في الدبلوماسية يمثّل الوجه الجديد للعلاقات الدولية في القرن الحادي والعشرين. وهو نتاج وعي عالمي متنامٍ بأن الأمن الشامل لا يمكن أن يتحقق من دون استقرار بيئي ومناخي. فالانبعاثات الغازية أو ارتفاع درجات الحرارة لم تعد شأنًا أكاديميًا، بل قضية سياسية كبرى تشغل قمم الأمم المتحدة، وتتحول إلى مفاوضات معقدة تتشابك فيها المصالح الاقتصادية مع الحسابات الجيوسياسية. ومع ذلك، فإن التعامل الدولي مع هذه القضايا لا يزال يعاني من تناقض صارخ بين الشعارات والالتزامات الفعلية، فالمصالح الاقتصادية الضخمة، وضغط شركات الطاقة التقليدية، واختلاف أولويات الدول بين الشمال الصناعي والجنوب الفقير، تجعل من أي اتفاق مناخي معركة تفاوضية شاقة تتجدد فيها الوعود، لكن التنفيذ يبقى متعثرًا.
وبرغم الإخفاقات، فقد خلقت هذه الملفات جيلًا من الدبلوماسيين الذين يجمعون بين المعرفة العلمية والقدرة التفاوضية؛ دبلوماسيون لا يحملون فقط ملفات الأمن والسياسة، بل أيضًا تقارير العلماء وأرقام الانبعاثات ومؤشرات التنمية المستدامة، إنهم يفاوضون على مستقبل الأرض نفسها لا على حدودها السياسية.










