طالب عبد العزيز
على الرغم من النتائج (البائسة) المتوخاة من انتخابات العام هذا، تشرين الثاني 2025، إلا أنها ستسفر عن أكثر من مفصلٍ مهمٍّ؛ يسهم في صنع التحولات السياسية القادمة. أهمها هو الفقر الكبير في حظوظ الأحزاب الدينية، وليس أقلها أهمية نضوج فكرة تأسيس أحزاب ليبرالية أو علمانية، أو غير دينية، بأبسط تعبير، لأنَّ العلمانية والليبرالية فكرتان لم تنضجا بعد في العقلية العراقية.
يتضح ذلك من مشهدين: أولهما، اعتماد حزبٍ دينيٍّ عريقٍ، يتجاوز عمرُ تأسيسه ثلاثةَ أرباعِ القرن؛ مثل حزب الدعوة بزعامة الرئيس المالكي، على مجموعة تشكيلاتٍ وفصائلَ مسلحةٍ صغيرةٍ، تأسست قبل عقدٍ أو نصف عقدٍ من الزمان، ولا تملك رصيداً تاريخياً طويلاً أو أيديولوجيةً معينة، فيقبل أنْ تتقدمَ مشروعه السياسي، ويجعلها متراساً أمامه، أو يمترسُ عليها بصريح العبارة، بما يطوي به تاريخ الحزب المعلوم، وبما يضطره إلى التعبير عن أزمته هذه بعباراتٍ طائفيةٍ صريحةٍ، لم تُدوَّن يوماً في سجلِّ الحزب النضالي، كعبارة (بعد ما نِنْطِيها) أو (لا تضيّعوها).
والمشهد الثاني هو الذي تبلور بوضوحٍ أيضاً في البصرة، في حفل ائتلاف (تصميم) برئاسة المحافظ أسعد العيداني، والذي أقيم في ملعب جذع النخلة الرياضي، بحضور أكثر من 65 ألفاً من أنصار الائتلاف. هذا الحفل الذي كشف عن أجمل ما يمكن أن يفرزه الحراك الانتخابي العراقي لصالح المدنية العراقية، حيث أقيم ولأول مرة في البصرة حفلٌ غنائيٌّ كبير، كان الأوسعَ والأجمل، بمشاركة مجموعةٍ من الفنانين والمطربين، وسط جمهورٍ فرِحٍ تحرر من القيود والتابوهات الاجتماعية والدينية التي كبلته طويلاً، وانتزعت منه الجزء الحياتيَّ الأهم، الذي يتطلع إلى كماله ورقيه فيه.
ولكي نتمكن من رسم صورةٍ، ولو مبتسرة، للمشهد العراقي الانتخابي، نجدُ أنَّ المدنية تنتصر في أمكنةٍ أخرى من العراق؛ فهذا جمهور المرشح والنائب سجاد سالم في الكوت، أمين عام حزب الاستقلال، يمنحنا صورةً أخرى لصالح المدنية. وكذلك يكون المرشح رقم واحد عن قائمة (البديل) عدنان الزرفي في النجف، ومعه المرشح رقم اثنين رائد فهمي، سكرتير اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي، بل وقائمة البديل كلها، التي تمثل الاتجاه الأكبر في التحولات المدنية في المجتمع العراقي. أمّا الأحزاب السنية، وإن اكتست بمسمياتٍ ظاهرُ بعضها دينيٍّ، إلا أنَّ غالبية زعاماتها وجمهورها ينحون منحى مدنياً، غير دينيٍّ ولا طائفيٍّ، وقد صرّح بذلك الكثير منهم، بما يشي بأنَّ مرحلةً جديدة تتخلّق اليوم.
وتأتي جملة رئيس الوزراء محمد شياع السوداني، وزعيم قائمة ائتلاف الإعمار والتنمية، (لا تسمحوا لهم)، التي كررها ثلاث مرات، لتؤكد توجه العراق نحو المدنية، وللقطيعة النهائية مع الجماعات والفصائل المسلحة التي أصيبت بمقتلٍ في صميم توجهاتها الدينية والقتالية، والتي وجدت نفسها أسيرةَ برنامجها (عراق قوي)، العبارة التي لم تعد ذات معنى في ظلِّ توجهات الكتل والقوائم الأخرى الساعية إلى التهدئة والحلول السلمية والدبلوماسية والبناء والحياة المدنية.
سيعظم رصيدُ قائمة السيد السوداني بدخول زعيم أكبر قبيلةٍ في الجنوب الشيخ مزاحم التميمي، هذه الشخصية العلمية والمدنية والعسكرية ذات التاريخ الوطني المشرف، والتي سيكون لوجودها داخل قبة البرلمان الأهميةُ والمعنى في تأسيس عراقٍ جديدٍ خالٍ من التشدد والمحاصصة والطائفية.
ولكي نقف على الصورة المستقبلية للعراق، وما يمكن أن تفرزه الانتخابات الحالية أيضاً، علينا أن نتوجه إلى البصرة ثانيةً على وجه التحديد، لأنها بحسب تعبير السيد أسعد العيداني: (صانعة القرار). فنجدُ أنَّ مرحلةً جديدة تتأسس هنا داخل ائتلاف (تصميم)، الذي يضم في صفوفه ولأول مرة مختلف التوجهات والأطياف السياسية والمذهبية البصرية، حيث نجد فيه الشيعيَّ البصريَّ الاثنيَّ عشريّاً الأصوليَّ، إلى جانب السنيِّ البصريِّ، وكذلك الشيعيِّ الشيخيِّ العامريِّ، مع أبناء العشائر البصرية الأخرى غير المتشددة والمعروفة بمدنيتها، فضلاً عن وجود النخب الوطنية الأخرى.
نعتقد بأنَّ صندوق الانتخابات سيفرزُ مشهداً جديداً، يخلص – وإنْ إلى حدٍّ ما – إلى طيِّ صفحةٍ لم يعد لوجودها معنى، ليفتح لنا صفحةً جديدةً أخرى مختلفةً تماماً.










