TOP

جريدة المدى > عام > علي حسن الفوّاز ناقداً: وعي أدبي/ معرفي مركّب

علي حسن الفوّاز ناقداً: وعي أدبي/ معرفي مركّب

نشر في: 9 نوفمبر, 2025: 12:02 ص

عواد علي
للناقد العراقي علي حسن الفوّاز بصمة واضحة في المشهد الثقافي والأدبي العراقي والعربي المعاصر. فهو ليس ناقداً أدبياً بالمعنى الأكاديمي الصارم، بل قارئ مثقف يمارس النقد بوصفه فعلًا معرفيًا، ومغامرةً فكريةً تتجاوز حدود النص لتطال الفضاء الثقافي والاجتماعي الذي يتخلّق فيه النص ويعبّر عنه.
في كتاباته يتداخل التحليل الجمالي مع الوعي الفكري والتاريخي، ويغدو النقد عنده أداةً لاستكشاف التحولات العميقة في الوعي الأدبي العراقي، لاسيّما بعد التحوّلات السياسية والاجتماعية التي عاشها العراق منذ التسعينات وحتى اليوم.
ينطلق الفوّاز في مشروعه النقدي من وعي معرفي مركّب، يرى أن الأدب فضاء لإنتاج المعنى وتشكيل الوعي، لذلك يتعامل مع النصوص الأدبية بوصفها نصوصًا مفتوحةً، لا تُقرأ ضمن قوالب جاهزة، بل تستدعي تأويلًا ينفتح على الفلسفة، والأنثروبولوجيا، والتحليل الثقافي.
سعى الفوّاز إلى كسر النمط التفسيري التقليدي في النقد العراقي، الذي كان يعتمد على الانطباعية أو الأيديولوجية المباشرة، متجهًا نحو نقد ثقافي يتجاوز الجمالية المغلقة إلى جمالية التفكير. في كتاباته عن الشعر والسرد، نلحظ ميلًا واضحًا إلى قراءة الأدب كحقل للخطاب، أي كمنظومة رمزية تعبّر عن الوعي الجمعي والتحوّل الاجتماعي، أكثر من كونه بناءً لغويًا معزولًا.
قراءات في الشعر
ارتبط اسم الفوّاز بقراءات معمّقة للشعر العراقي الحديث، وخاصة شعر جيل التسعينات وما بعده. وهو يرى أن هذا الشعر شكّل منعطفًا في تاريخ القصيدة العراقية، إذ انتقل من النبرة الرؤيوية العالية إلى اللغة اليومية، والهشاشة الوجودية، والبحث عن الذات داخل الركام.
من خلال مقالاته ودراساته النقدية، تعامل الفوّاز مع الشعراء بوصفهم كائنات تعيش أزمتها في العالم، لا كمنتجين لجماليات مجردة. في قراءاته لقصائد الشعراء مثل نوري الجراح، عمر السراي، حسب الشيخ جعفر، علي جعفر العلاق، قاسم حداد، سركون بولص، صلاح فائق، خزعل الماجدي، باسم المرعبي، محمد الغزي، ومحمد بنيس يبرز مفهوم "الكتابة بوصفها مقاومة"، أي أن الشعر، في نظره، شكل من أشكال الاحتجاج الثقافي على قبح الواقع وتشوّهات السلطة. كما أن لغته النقدية تميل إلى التكوين الشعري، كونه شاعرًا في الأساس، فهو يستخدم مفردات مكثّفة، وعبارات مشبعة بالصور، مما يمنح نقده بُعدًا إبداعيًا خاصًا، يجعله قريبًا من النصوص التي يقرأها، لا متعاليًا عليها.
قراءات في السرد
وفي دراساته عن السرد الروائي والقصصي، قدّم الفوّاز إسهامات مميزةً في تحليل روايات كتّاب عرب مثل: نجيب محفوظ، إلياس خوري، طالب الرفاعي، ميرال الطحاوي، حسن حميد، وغيرهم، وفي تحليل التحوّل السردي في العراق، خصوصًا بعد عام 2003، فهو يرى أن الرواية العراقية الحديثة لم تعد تُروى لتوثّق التاريخ، بل لتُعيد تأويله عبر منظور الذات الفردية، والذاكرة الجريحة، والاغتراب الوجودي.
لقد اهتمّ الفوّاز بقراءة روايات محمد خضير، عبدالخالق الركابي، أحمد خلف، أزهر جرجيس، شاكر نوري، عواد علي، خضير فليح الزيدي، محسن الرملي، نزار عبدالستار حميد المختار، أحمد سعداوي، وغيرهم، عادًّا إياها إبداعات سرديةً تشكّل ما يسميه بـ"سرد ما بعد الخراب"، أي السرد الذي يتعامل مع تفكّك العالم وتهشّم المعنى بعد الحروب والاحتلال والانهيارات القيمية.
في هذا السياق، يمارس الفوّاز نقدًا ثقافيًا يُعيد النظر في مفاهيم البطولة، الهوية، والمدينة العراقية، بوصفها مفاهيم لم تعد تُقرأ ضمن الذاكرة البطولية أو الوطنية القديمة، بل ضمن فضاء الفقدان والقلق والتمزّق.
النقد الثقافي
تميّز الفوّاز عن كثير من النقاد العراقيين بقدرته على الجمع بين التحليل النصّي والقراءة الثقافية، فهو يرى أن النقد لا يكتمل ما لم يلامس البنية العميقة للثقافة التي تنتج الأدب. في هذا الإطار، يشتبك مع قضايا مثل سلطة الخطاب، تمثيل المرأة، الأسطورة، الدين، والهوية، بوصفها عناصر حاضرة في تشكيل النصوص.
في مقالاته عن التحوّلات الثقافية في العراق، أظهر وعيًا نقديًا بضرورة الانتقال من النقد الأدبي إلى النقد الثقافي، أي من قراءة النص إلى قراءة المجتمع الذي ينتج النص. بهذا المعنى، يمكن القول إن الفوّاز يمثّل جيلًا من النقاد الذين تجاوزوا البلاغة الأدبية إلى التفكير في الثقافة بوصفها خطابًا سلطويًا وميدانًا للصراع الرمزي.
أسلوبه ولغته
يمتاز أسلوب علي حسن الفوّاز بالعمق والتكثيف والبعد التأويلي، أسلوب أقرب إلى الشعر في كثير من المواضع، لكنه يظل محافظًا على دقة التفكير النقدي. وهو لا يكتب بنهج أكاديمي، بل بمنحى متدفق، يجمع بين الحسّ الجمالي والوعي الفلسفي. كما أن مقالاته النقدية تميل إلى التحليل الجدلي، توازن بين النص والسياق، بين اللغة والفكر، وبين الجمالي والسياسي، ولا يقدّم أحكامًا نهائيةً، بل يترك النص مفتوحًا على التأويل، وهو ما يمنح نقده طابعًا ديناميكيًا حيًّا.
أثره في المشهد الثقافي
أسهم علي حسن الفوّاز في تنشيط المشهد الثقافي العراقي من خلال مقالاته في الصحف والمجلات الثقافية، وندواته، واشتغاله في مؤسسات ثقافية فاعلة. لقد كان ولا يزال صوته دائمًا حاضرًا في النقاشات حول دور المثقف، وأزمة الهوية، ومستقبل الأدب العراقي.
يرى الفوّاز أن النقد ليس وظيفةً مدرسيةً، وإنما فعل مقاومة فكرية ضد التبسيط والابتذال، وضد تحوّل الأدب إلى سلعة. ولذلك ظلّ محافظًا على استقلاله الفكري، رافضًا الانجرار إلى الخطابات الحزبية أو الشعارات الأيديولوجية الضيقة.
إن تجربة علي حسن الفوّاز النقدية تشكّل علامةً مميزةً في النقد العراقي الحديث، لما تنطوي عليه من وعي ثقافي وجمالي عميق، ومن قدرة على المزاوجة بين الإبداع والتفكير. لقد قدّم مشروعًا نقديًا متطورًا يرى الأدب بوصفه ممارسةً للتحوّل، والناقد بوصفه شاهدًا على التاريخ الثقافي للإنسان العراقي.
وفي عالم تتناقص فيه الأصوات النقدية الجادة، يبقى علي حسن الفوّاز مثالًا للناقد المثقف الذي يجمع بين الفكر والجمال، بين الحفر في اللغة والانتباه إلى ما وراءها، مسهمًا في بناء خطاب نقدي عراقي معاصر، منفتح على العالم دون أن يفقد جذوره.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق الدولي للكتاب

الأكثر قراءة

بروتريه: فيصل السامر.. قامة شامخة علماً ووطنيةً

موسيقى الاحد: 250 عاماً على ولادة كروسيل

الحكّاء والسَّارد بين "مرآة العالم" و"حديث عيسى بن هشام"

في مجموعة (بُدْراب) القصصية.. سرد يعيد الاعتبار للإنسان ودهشة التفاصيل الصغيرة

شخصيات اغنت عصرنا.. الملاكم محمد علي كلاي

مقالات ذات صلة

الكاتب يقاوم الغوغائية والشعبوية والرقابة
عام

الكاتب يقاوم الغوغائية والشعبوية والرقابة

أدارت الحوار: ألكس كلارك* ترجمة: لطفية الدليمي يروى كتابُ مذكرات لي ييبي Lea Ypi ، الحائز على جائزة، والمعنون "حُرّة Free" تجربة نشأتها في ألبانيا قبل وبعد الحكم الشيوعي. أما كتابُها الجديد "الإهانة indignity"...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram