د. نادية هناوي
منذ ظهور الذكاء الاصطناعي في خمسينيات القرن الماضي، والعالم يتكهن بالسفر عبر الفضاء وإلغاء الزمان والمكان. ولم يتحقق هذا التكهنُ على أرض الواقع حتى يومنا هذا. ولقد تحدث علماءُ الحاسوب منذ أكثر من أربعين عامًا عن السايبروغ الذي يدمج البيولوجيا بالتكنولوجيا ويبلغ مرحلة ما بعد إنسانية، ولم يتحقق شيءٌ مهمٌ في هذا الشأن حتى الآن.
وإذا كان بإمكان الحاسوب أن يفتح آفاقًا جديدة في مجال إنتاج وسائل اللعب الرقمية والأفلام السينمائية والتعليم الافتراضي والترجمة الفورية والتسوق الالكتروني، فإنَّ الأمر ليس كذلك مع الإبداع الأدبي والفني، لأن إنتاجهما ونقدهما فعلٌ إنساني. وليس للتقنيات الحاسوبية مهما كانت ذكية ومتعددة الوسائط أنْ تشعر كالبشر، بل كلُّ الذي تقدر على انجازه هو محاكاة الإبداع البشري محاكاة استنساخية.
والغالب على المبادئ التي على وفقها يتولد السرد الحاسوبي أنها تعتمد على التقعيد المورفولوجي الذي وضعه فلاديمير بروب لبنية الحكاية لكن من دون أية سمات إنسانية تتضح في طبيعة اللغة الأسلوبية للقصة مما له صلة بالقيم الجمالية أو التأثيرات النفسية التي تنتظم الخطاب.
ومهما تتطلع مراكز الحوسبة للعلوم الإنسانية إلى دمج النظريات السردية بتقنيات الذكاء الاصطناعي بغية جعلها شبيهة بالبشر، فإنها إلى الآن لم تتمكن من أن تكون ساردًا أو ناقدًا يتفاعل مع النص بإنسانية ناهيك عن الاعتبارات الأخلاقية التي تقف وراء مثل هذه المشاريع سواء من ناحية توليد النصوص أو من ناحية التحيز إلى الآلة ضد الإنسان.
وليس السرد الحاسوبي سوى آلية من آليات عمل لغة البرمجة الحاسوبية باستعمال النماذج اللغوية الكبيرة من أجل توليد محتوى بالآلة الذكية هي فيه وسيلةً مساعدةً وليست عصا سحريةً بمجرد أن يكتب المستخدم( اطلبُ من AI تخيل أي شيء ) حتى تنوب عنه الآلة في التخيل، وفي الكتابة معا!!. وهنا لا بد من الإشارة إلى نقطتين مهمتين: أولا/ أن السرديات الحاسوبية لا تكون كذلك فيما إذا قام المؤلف البشري بالتدخل في بنية هذا السرد. وثانيا/ أن شركات الذكاء الاصطناعي دائما تسعى إلى تهويل أمر منتجاتها من خلال ما تطرحه من نماذج قصصية، بها تدلل على قدرات نموذجها اللغوي المبتكر.
وإذا كان السرد الرقمي العربي قد سعى إلى تهويل أمر النص الالكتروني، ولم يحقق ذلك على المدى البعيد، فإنَّ السرد بالذكاء الاصطناعي سائر إلى المصير نفسه على المدى القصير. وبذلك تتأكد حالة الانبهار بهذا الذكاء في توليد سرد أصيل من خلال روبوت غير قادر على أن يكون ساردًا أو ناقدًا أصيلًا. ولو كان هذا الروبوت أصيلًا، لاخترع لنا سردًا حاسوبيًا جديدًا، ولوضع لنفسه منهجًا خاصًا به أيضًا. وأنَّى له ذلك، وآلات توليد السرد عبارة عن برامج حاسوبية وخوارزميات جامدة غير قادرة على الشعور بالحزن أو الغضب أو حتى التمتع بروح الفكاهة والسخرية. وبذلك لا يُضيف مثل هذا السرد على اختلاف حيثياته أي جديدٍ يُذكر.
إنَّ استعانة المؤلف البشري بروبوت المحادثة في إنتاج سرد حاسوبي لا ينبغي أن يكون غاية في حدِّ ذاته كما يرى كثيرون من الذين يتصورون أن مستقبل السرد الحاسوبي سيكون خطيرًا على السرد البشري. وما نتوقعه هو أنَّ الانبهار بالسرد الحاسوبي سينحسرُ تدريجيا كما انحسرَ الانبهارُ بالسرد الرقمي، وستبددُ أوهامُ توليد قصص أو روايات أو نصوص نقدية بوساطة روبوتات الذكاء الاصطناعي.
ولقد توجهنا إلى أحد تلك الروبوتات بالسؤال الآتي: اذكر لي قصصًا ورواياتٍ عربية كُتبت باستعمال روبوتات المحادثة ؟ وكانت الإجابة كالآتي: (حتى نهاية 2024 ما زال استعمال روبوتات المحادثة (Chatbots / LLMs) في تأليف الأدب العربي تجربة حديثة ومحدودة الانتشار[..] مع ذلك يمكن الإشارة إلى أبرز التجارب:1. «قصص الآلة – Anthology of Arabic Machine-Generated Flash Fiction» جهة الإصدار: مجموعة بحثية تطوعية تحمل الاسم «الكتابة الآلية العربية»[..] 2. «حكاية بيني وبين الآلة» – محمد الزعبي[..] هذه الأعمال تمثل بداية استخدام الذكاء الاصطناعي في الأدب العربي، وتفتح آفاقا جديدة للكتابة الإبداعية.).
وبعد معاودة السؤال بصيغة أخرى، ذكر النموذج اللغوي عددا آخر من الحكايات والقصص والروايات العربية. وبالبحث في الشبكة العنكبوتية عن سرديات مولدة بروبوتات المحادثة، تبين وجود أعمال عدة، منها: ديوان راقمون وفيه مجموعة نصوص شعرية وسردية، وكتاب يشتمل على عدة نصوص نقدية تدور حول تحليل قصة واحدة قصيرة جدا. وقصة اخرى حاسوبية، عدَّها الكاتب المصري أحمد لطفي رواية للفتيان وهي مولَّدة بروبوت المحادثة تشات جي بي تي، وبعنوان باهت( خيانة في المغرب) ووضع لطفي للقصة مقدمة، عد فيها عمله أول رواية عربية مكتوبة بالذكاء الاصطناعي. وأشار إلى أنَّ أولى الروايات التي كُتبت بهذه الطريقة على مستوى العالم كانت لروبن سلون 2018. وسلون كاتب أمريكي، صدرت روايته الاصطناعية الأولى Bookstore Mr. Penumbra›s 24-Hour عام 2012 ، وليس 2018 .
لقد وجد أحمد لطفي في سرد الروبوت الالي وسيلةً لتأليف عملٍ، نسبه إلى نفسه. ولكن هل يمكن فعلا توليد رواية كاملة بالذكاء الاصطناعي؟ وإذا كان الأمر كذلك فلماذا إذن ذكر أحمد لطفي سلبيات هذا التوليد ؟ ومنها أن لغة chat سطحية، وهي أشبه بالترجمة من العربية، وأن الإنسان لا يقبل أن يكتب الذكاء الاصطناعي قصته بدلا عنه، وأن الرواية بالذكاء الاصطناعي وإن حققت قفزات على المستوى العالمي، فإن مدخلاتها على مستوى الأدب العربي ليست كذلك بسبب التقنية الفقيرة. وبعد ذلك فصَّل أحمد لطفي القول في الطرق التي بها تعامل مع روبوت المحادثة، فذكر أنه وجه إليه السؤال الآتي:( اكتب لي قصة عن أم مغربية سافر ابنها بعدما مات أبوه، لتطارده حتى تصل إليه ثم تخبره بحكايتها مع أبيه) ولم يجد لطفي إجابة مقبولة كون الروبوت(لا يفهم أنك تكتب قصة كبيرة أو نوفيلا) إلى جانب ما يتركه من( ثغور كثيرة جدًا لأن القصة يكتبها مجزأة.) لذلك كرر السؤال بإضافات وصياغات مختلفة ثم قام بتجميع الإجابات وتشكيلها في صورة ما عدَّه( رواية)
والحقيقة أن هذا العمل في محتواه وشكل عناصره ليس رواية، بل هو قصة موجهة إلى الأطفال بسبب بساطة مفرداتها وسطحية حبكتها. وجميع جملها قصيرة( كانت أمه تحكي له/ وصل إلى مطار مراكش/ عندما أصبح في العشرين) وهو ما لا نجده في السرد البشري؛ فالروائي عادة ما يسعى إلى إطالة الجمل وعدم تقطيعها كما في هذه الجملة من رواية( بيت الخاتون) 2025 للكاتب إسماعيل سكران( تم تشييد ذلك المنزل من الآجر الأحمر الذي ساد في حقبة ستينيات القرن العشرين في مدينة تزيد مساحته على الخمسمائة متر مربع).
ومن المحتمل أنَّ أحمد لطفي تدخل في السرد الحاسوبي المولَّد بالذكاء الاصطناعي لاسيما في وضع الحوارات الخارجية التي لعبت دورًا في تطويل القصة. ولأن لطفي لم يؤكد ذلك الأمر، يصبح واجبًا عدُّ عمله سردًا مولدا بروبوت المحادثة اللغوية. وقد غلبتْ عليه الرتابة؛ فالأحداثُ معتادةٌ، مما نجده في القص الرومانسي حيث البطل فارس وسيم وقوي، يبحث عن المحبوبة المخطوفة، ويخوض في سبيل ذلك مغامرات عدة. أما خاتمة العمل، فجاءت باهتة بلا مشاعر إنسانية. وهذا ما أفقد القصة أهم عنصر من عناصر التشويق القرائي.
لا شك في أنَّ هذه السلبيات هي عامة في السرد الحاسوبي على الصعيدين العالمي والعربي، ولا فرق إن كان النموذج chatgpt بأنواعه أو كان claude و Gemini وغيرها؛ ففي جميعها لا يقدر روبوت المحادثة اللغوية على الإحساس بالمحيط من حوله أو التعبير الذاتي عن نفسه. ومن ثم تفتقر نصوص السرد الحاسوبي إلى أهم منزع في كتابة أي نصٍ أدبي وهو منزع الشعور بالعواطف الإنسانية.
"رواية عربية" بروبوت المحادثة اللغويّة

نشر في: 9 نوفمبر, 2025: 12:03 ص









