TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > قناديل: اجهادٌ عقليٌّ يطحنُ ارواحا شابة

قناديل: اجهادٌ عقليٌّ يطحنُ ارواحا شابة

نشر في: 9 نوفمبر, 2025: 12:04 ص

 لطفية الدليمي

عراقُ اليوم هو محنتُنا الكبرى. هو الهمّ اليومي الذي لا يدانيه همّ صغُر أم كبر. لن نتخاصم في هذه الحقيقة لو كنّا محبّين حقيقيين للعراق؛ لكنّ هذه الحقيقة لا يتوجّبُ أن تكون سِتاراً يطمسُ كثيراً من المكابدات الموجعات التي يئنُّ تحتها عراقيون أفراداً أو شرائح مجتمعية. ما أكثر مكابدات العراقيين!!.
مقالة اليوم سأختصُّ بها الشريحة الشبابية من العراقيين، وبخاصة هؤلاء الذين غادروا مرحلة الدراسة الثانوية ليطرقوا أبواب الدراسة الجامعية وهم ينتظرون بناء مستقبل بهمّة الشباب واندفاعته المتفجّرة؛ لكن ثمّة دوماً ما يثقلُ قلوبهم ويفترس عقولهم وينتزع منهم عنفوان الحياة.
لم أزل أذكرُ كرّاسة دليل التقديم للجامعات والمعاهد العراقية قبل عام 2003. كانت الصفحات الأولى منها مكرّسة للحديث عن الخدمة العسكرية الإلزامية مقرونة بنصوص العقوبات القانونية المنصوص عليها في القانون العراقي. كان المرء يشعر حينها وكأنّه إزاء قراءة البيان رقم واحد عقب التغييرات (الثورية!!)، ثمّ بعد هذه الوجبة غير الشهية يبدأ الدليل في تنبيه الطالب الشاب -حدّ إرعابه- إلى أنّ خياراته في هذا الدليل ستحدّدُ مستقبله، وأنّ من العسير تغيير خياراته لاحقاً. كنت أتساءل كلّما تحدث شبابنا عن هذا الدليل : هل يمتلك الشاب الصغير مصباح علاء الدين السحري لكي يعرف تماماً نوع الدراسة التي يتناغم معها. قد يحبُّ شيئاً ثمّ يكتشفُ تفاصيل كانت غائبة عنه. لماذا نحرمه من حقّ المعرفة وتعديل المسار الذي لا يتلاءم معه؟ أذكرُ أنّ الدراسة الجامعية كانت في الستينات وحتى منتصف السبعينات من القرن الماضي تبدأ بسنة دراسية أساسية تسمّى Foundation Year تضمُّ موضوعات عامّة، يجري على أساسها توجيه الطالب نحو الفرع الدراسي الذي يرغبه. في منتصف السبعينات تمّ إلغاء هذه السنة، وصار القبول مركزياً صارماً بعدما كان التقديم للكليات ذاتها من قبلُ. أعتقدُ أنّ تجربة القبول المركزي كانت سيئة للغاية وأهدرت مواهب عراقية ثمينة.
بعد 2003 صار الشباب الذي انهى الدراسة الثانوية تحت مطحنة أخرى. كنتُ قبل بضعة أيّام أقرأُ في منصّة على الفيسبوك تعنى بمكابدات أصحاب المعدّلات العالية والواطئة والقبولات الجامعية بعامّة. سنقرأ هناك منشورات تتيحُ لنا معرفة شيء خفي عن مطحنة تفترسُ قلوب وعقول شباب وشابات بوحشية قاسية. هذه المطحنة قد تكون خافية عن بعضنا؛ لكنّ الآباء والأمّهات يعرفونها ويكابدونها وليس ثمّة من مُعين لهم في ابتلاءاتهم. هاكم مثالاً لها: فتاةٌ تكتبُ أنّها حصلت على معدّل في الثانوية يقتربُ من حافة 99% (وهو معدّلٌ صار عادياً في العراق بعد تجاوز عدد حاصلي ما فوق المائة عشرات المئات!!). نالت هذه الفتاة قبولاً في الصيدلة بجامعة كربلاء، وهي تريد دراسة الطب. تقولُ أنّها تفكّرُ جدياً في الإنتقال لدراسة اللغة الإنكليزية في كلية التربية لأنّها ممتازة في اللغة الإنكليزية، ولأنّها ستكون من المتفوّقات حتماً وستنضمُّ للسلك التدريسي الجامعي، ولأنّ التعيين في القطاع الحكومي لإختصاص الصيدلة (والإختصاصات الطبية في العموم) لم يعد مضموناً. تكتب قائلة ماذا أفعلُ بشهادة صيدلة لا تساعدني في الحصول على تعيين؟
مضيتُ أقرأ التعليقات على منشور هذه الفتاة. أوقنُ تماماً أنّ قراءة هذه التعليقات كفيلةٌ بأن تصيب المرء بإجهاد عقلي قاتل. أشفقتُ على الفتاة كثيراً. هي تريدُ ومضة أملٍ في تعليق يساعدها على اتخاذ القرار المناسب لها. ربّما سيقول بعضنا: وما لهذه الفتاة تطرحُ مشكلتها على العلن؟ لتتخذْ قرارها وينتهي الأمر. هل ثمّة من يعرفها أكثر من نفسها؟ هذا تساؤل بطِرٌ من جانب مَن لم يكتوِ بنار المكابدة اليومية. أظنّها أرادت من إشهارها لمشكلتها أن تحصل على أجابات متعدّدة حتى وإن تباينت، ثمّ تعمل على تحليل الإجابات إحصائياً لتميل مع ما تميلُ إليه الأكثرية. لن نتوقّع من شابة صغيرة أن تتخذ قراراً نهائيا بالنظر إلى خبرتها وحدها. هي تخشى أن تتّخذ القرار ثمّ تغرق في بحر من الندامة.
أما ما كتبه المعلّقون فذلك لوحده حكاية موجعة ومؤلمة. ما أرادته الفتاة حبل إنقاذ لها زاد شكوكها وحيرتها، وهو أمرٌ متوقّعٌ. كيف لنا أن نتوقّع صلاحية عامّة لخبرة فردية محكومة بعناصر لا يتشاركها الجميع؟ تخيلوا معي حجم التيه الذي سيبتلع الفتاة وهي تقرأ تعليقاً يقول فيه كاتبه (هل أنت مجنونة؟ كيف تستبدلين (كشخة) الصيدلة بِكلية تقبع في الذيل ولا يرتادها سوى الحاصلين على خمسينات المعدّل؟ لماذا تخسرين نفسك؟ ستندمين بنيّتي. أنا اكبر منك وأعرف ما الذي ينتظرك؟). ثمّ تقرأ تعليقاً تالياً يقول: (عزيزتي. أنت في كلية الصيدلة ستكونين ذكية بين أذكياء"وكأن الذكاء وقفٌ على الصيادلة!!". لن تتفوقي بينهم، وقد يكون تفوقك شاقاً؛ بينما في كلية التربية ستواجهين طلبة يكرهون تخصصهم، وستتفوقين بسهولة عليهم جميعاً، وبعدها ستحصلين على الماجستير والدكتوراه والتعيين أستاذة في الجامعة. أليس هذا أفضل؟). ثمّ هناك تعليقات إضافية يشتكي فيها المعلّقون من أوضاعهم الوظيفية. التعليقات بالآلاف، وتخيّلوا معي ما الذي ستصنعه الفتاة إزاء هذه التعليقات؟ يجرّونها كحبل ذات يمين وذات يسار، وهي تائهة في هذه المطحنة لا تعرف ما تفعل.
الحكومة من جانبها (ممثلة بوزارة التعليم العالي) ساهمت في هذه المطحنة. هذه الكليات الأهلية التي تُفتَحُ بلا حساب ساهمت في زيادة أعداد الخريجين. ألوف مؤلفة كل عام تنضمُّ لطوابير البطالة وقد تآكلها اليأس والشعور بالخديعة من أنّ الحكومة (أو متنفّذين فيها) لا يهتمّون لشيء سوى لمصالحهم الشخصية. ثمّ هناك مطحنة أخرى يشيب لها رأسُ الخريج الثانوي، إسمُها: قناة الدراسة الموازية، وقد جعل منها وزير التعليم العالي وسيلة لجعل الخريجين يلهثون وراء توقيعه المبارك أملاً في الحصول على تخفيض أو تقليل لمصاريف هذه الدراسة. حياتنا في العراق دوماً هي رهينة هذه البركات: بركات الرئيس، وبركات رئيس الوزراء، وبركات الوزير نزولاً حتى المدير العام. لماذا لا يكون هناك قانونٌ عام يحكمُ الجميع بدلاً من هذا اللهاث المعيب وراء استعطاف المسؤولين- ذلك الإستعطاف الذي صار عنصراً شرساً يجري توظيفه في بروباغاندا المعركة الإنتخابية؟
ليس شبابنا وحدهم من ينسحقون في لظى هذه المطحنة. علينا أن لا ننسى عائلاتهم. الآباء والأمّهات الذين إقتطعوا من أفواههم ربّما لقمة حتى يتكفّلوا بتدبير تكاليف الدراسة الخصوصية التي باتت بنداً ثابتاً في ميزانية العوائل العراقية وما كنّا نعرف هذا من قبلُ. يصرفون الملايين ثمّ لا تنتهي معاناتهم حتى لو حصل أبناؤهم على معدّلات تقاربُ المائة. ماذا بوسعهم أن يفعلوا أكثر ممّا فعلوه؟ امتصّت الدروس الخصوصية دماءهم بعد أن فقدت المدارس وظيفتها الحقيقية، ثمّ يشعرون وكأنّهم كانوا أفراداً مساكين في مسرحية ساخرة.
لو شئتُ الحديث عن تفاصيل جزئية أكثر تدقيقاً في هذه الموضوعة (موضوعة القبول الجامعي) لحكيتُ الكثير؛ لكنّي سأكتفي بالقول أنّنا نخسرُ شاباتنا وشبابنا ونجعلُ تطلعاتهم طُعماً للنيران. خسائر هؤلاء الشباب (وخسائرنا المنظورة وغير المنظورة معهم) كبيرة، وأهمّ هذه الخسائر أنّهم في مقتبل حياتهم يشعرون أنّ فخّاً هو أقربُ لمصيدة فئران ينتظرهم ويسحقهم بلا رحمة، ويرغمهم على التخلّي عن طموحاتهم المشروعة والإنغمار القسري في لعبة المتاهة العراقية التي يديرُها فاشلون بضمائر صخرية ميّتة.
شباب وشابات بعقول سحقها الإجهادُ والتفكير السوداوي وهُمْ في بواكير حياتهم بعدُ. كيف سيُديمون حياتهم في سنوات قادمة وهم لم يعيشوا زخم الشباب في إنطلاقته الأولى؟

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق الدولي للكتاب

الأكثر قراءة

العمود الثامن: الغرابي ومجزرة جسر الزيتون

العمود الثامن: نون النسوة تعانق الكتاب

العمود الثامن: مسيرات ومليارات!!

ثقافة إعاقة الحرية والديمقراطية عربيا

"دبلوماسية المناخ" ومسؤوليات العراق الدولية

العمود الثامن: نصف قرن من التفوق

 علي حسين في مثل هذه الأيام، وبالتحديد في الثاني من كانون الاول عام 1971، أعلن الشيخ زايد عن انبثاق اتحاد الامارات العربية، وعندما جلس الرجل البالغ آنذاك خمسين عاماً على كرسي رئاسة الدولة،...
علي حسين

كلاكيت: في مديح مهند حيال في مديح شارع حيفا

 علاء المفرجي ليست موهبة العمل في السينما وتحديدا الإخراج، عبئا يحمله مهند حيال، علّه يجد طريقه للشهرة أو على الأقل للبروز في هذا العالم، بل هي صنيعة شغف، تسندها تجربة حياتية ومعرفية تتصاعد...
علاء المفرجي

البَصْرة.. لو التَّظاهرُ للماء والنَّخيل!

رشيد الخيّون تظاهر رجال دين بصريون، عمائم سود وبيض، ضد إقامة حفلات غنائيَّة بالبصرة، على أنها مدينة شبه مقدسة، شأنها شأن مدينتي النَّجف وكربلاء، فهي بالنسبة لهم تُعد مكاناً علوياً، لِما حدث فيها من...
رشيد الخيون

الانتخابات.. بين صراع النفوذ، وعودة السياسة القديمة

عصام الياسري الانتخابات البرلمانية في العراق (11 نوفمبر 2025) جرت في ظل بيئة أمنية نسبيا هادئة لكنها مشحونة سياسيا: قوائم السلطة التقليدية حافظت على نفوذها، وبرزت ادعاءات واسعة النطاق عن شراء أصوات وتلاعبات إدارية،...
عصام الياسري
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram