بغداد / تباك عبد المجيد
لم تعد أزمة الجفاف في العراق محصورة بتراجع الزراعة ونقص مياه الشرب والهجرة العكسية، بل امتدت لتطال الطقوس الدينية للطائفة الصابئية المندائية، التي تعتمد في جوهر عباداتها على الماء الجاري. ومع انخفاض منسوب نهر دجلة إلى مستويات خطيرة، وجد أتباع الطائفة أنفسهم عاجزين عن أداء طقوس التعميد والزواج التي تمثل ركنًا أساسيًا في ديانتهم، ليتحول الجفاف من مشكلة بيئية إلى تهديد يمس الهوية والوجود الروحي لأقدم الديانات في بلاد الرافدين.
طقوس دينية “مهددة”!
تقول رشا ماجد الخميسي، من أتباع الديانة المندائية لـ”المدى”، إن “الماء الجاري الذي يُعرف باسم ياردنه يحتل مكانة مقدسة في العقيدة المندائية، فهو عنصر أساسي في أغلب الطقوس الدينية مثل التعميد الذي يُعرف بـالمصبته، والصلوات، ومراسيم الزواج، إذ يجب أن تُقام جميعها في مياه طبيعية جارية ونقية”.
وتوضح الخميسي أن “جفاف نهر دجلة وتلوث مياهه لا يُعد مجرد أزمة بيئية، بل كارثة روحية تمس جوهر الإيمان المندائي”، مشيرة إلى أن “انخفاض منسوب المياه في أغلب فروع دجلة جعل أداء الصلوات والطقوس أمرًا بالغ الصعوبة، خصوصًا أن طقس التعميد يتطلب غمر الجسد بالكامل في الماء الجاري، وهو ما أصبح شبه مستحيل في ظل الركود والجفاف الذي تعاني منه الأنهار”.
وتضيف أن “الكهنة باتوا يواجهون صعوبة في إيجاد أماكن مناسبة لإجراء طقوس التعميد وفق التعاليم الدينية، إذ هناك معايير محددة يجب أن تتوفر في المياه، من بينها العمق والجريان والنقاء، وهذه الشروط لم تعد متاحة كما كانت في السابق”.
وتشير الخميسي إلى أن “تراجع مستويات المياه أثّر أيضًا على مواقع المنديات، وهي بيوت العبادة المندائية التي تُقام عادة بالقرب من الأنهار مثل القادسية والعمارة والبصرة، إذ كانت هذه المواقع تُختار بعناية قرب مجرى النهر، لكن مع الجفاف ابتعدت المياه عن تلك الأماكن، مما صعّب من ممارسة الطقوس الدينية فيها”.
ومع تفاقم الأزمة، لجأت العديد من العوائل المندائية إلى الهجرة بحثًا عن مناطق تتوفر فيها مياه جارية تمكّنهم من أداء شعائرهم، سواء داخل العراق أو خارجه. وتوضح الخميسي أن “بعض العوائل انتقلت إلى مناطق قريبة من الأنهار داخل البلاد، فيما هاجرت أخرى إلى إيران وتركيا وحتى أوروبا حفاظًا على استمرارية ديانتهم وموروثهم الروحي”.
هكذا تتحول أزمة المياه من مسألة بيئية إلى قضية تمس الهوية الدينية والثقافية لطائفة عُرفت بسلامها وعمق تراثها الروحي، لتضيف صفحة جديدة إلى معاناة التنوع الديني في بلدٍ كان يومًا ما مهد الأنهار والحضارات.
وتذكر ميس عامر، من أبناء الطائفة الصابئية المندائية، أن أزمة الجفاف لم تعد مجرد قضية بيئية، بل تحولت إلى معاناة إنسانية تمس تفاصيل الحياة اليومية لأبناء طائفتها، حتى في أكثر لحظاتهم خصوصية، مثل الزواج.
تروي ميس قصة شقيقها الذي تعرقل زواجه بسبب جفاف نهر دجلة، قائلة:
“كان من المقرر أن تُقام مراسيم الصباغة لشقيقي مروان يوم الأحد، وهي الطقوس التي تمنح الزواج الشرعية الدينية لدينا، لكننا فوجئنا بانخفاض منسوب المياه في المكان المخصص لإقامة المراسيم، حتى لم يعد ممكنًا أداء الطقس كما يجب، لأن الماء الجاري هو الأساس في كل شعائرنا”.
تضيف: “شقيقي عقد قرانه قانونيًا قبل أسابيع، وكنا ننتظر يوم الصباغة ليصبح زواجه مكتملاً وفق الديانة المندائية، لكن تراجع المياه جعل الكهنة يؤجلون المراسم، فشعرنا جميعًا بخيبة أمل كبيرة. بالنسبة لنا، الزواج لا يكتمل إلا بعد أداء الطقس الديني، لأنه يمثل الرباط الروحي بين الزوجين أمام الخالق”.
وتوضح ميس أن طقوس الصباغة تتم بملابس بيضاء بسيطة تُعرف بـالراستا، وترمز إلى النقاء والطهارة، مشيرة إلى أن “الماء الجاري في معتقدنا هو الحياة نفسها، وكل طقوسنا الدينية من الزواج والتعميد إلى الصلوات ومراسيم الوفاة تعتمد عليه، ولهذا فإن الجفاف وتلوث الأنهار يهددان استمرار ممارساتنا الروحية”.
وتتابع ميس حديثها بحسرة: “كنا نقول دائمًا إن الماء هو رمز الحياة والطهارة، لكنه اليوم أصبح رمزًا للغياب. نهر دجلة الذي منح طقوسنا معناها، بات يخذلنا مرة بعد أخرى”.
جفاف يهدد الوجود قبل الطقوس!
يرى ممثل الطائفة المندائية في مجلس النواب السابق خالد رومي أن أزمة الجفاف وتلوث المياه في العراق لا تمس فقط الطقوس الدينية للطائفة الصابئية المندائية، بل تتجاوزها لتشكل تهديدًا مباشرًا لحياة الناس واستقرارهم، مشيرًا إلى أن ما يجري اليوم هو نتيجة تراكمات طويلة من الإهمال الحكومي وسوء إدارة الموارد المائية.
وقال رومي لـ”المدى”، إن “الديانة الصابئية المندائية تعتمد في جوهر طقوسها على المياه الجارية، التي تُعد رمزًا للنقاء والطهارة، إذ كانت الأنهار على مدى آلاف السنين المصدر الأنظف والأقدس الذي تُقام عنده مراسيم التعميد والصلوات والمناسبات الدينية، على خلاف المياه الراكدة في الآبار أو البحيرات التي لا تُستخدم في الطقوس المندائية”.
وأوضح أن “تلوث الأنهار في السنوات الأخيرة تفاقم نتيجة إهمال الحكومات المتعاقبة، حيث تُرمى الملوثات الصناعية والمجاري الثقيلة في المياه دون أي معالجة أو رقابة، في مخالفة صريحة للمعايير البيئية المتبعة في أغلب دول العالم”، مبينًا أن “هذا الإهمال بدأ منذ فترة الحصار واستمر حتى اليوم، رغم وجود إمكانيات حقيقية لمعالجة المشكلة، إلا أن أي إجراء جاد لم يُتخذ حتى الآن”.
وأشار رومي إلى أن “شحّة المياه تفاقمت أيضًا بسبب تقليص حصة العراق المائية من قبل دول المنبع، رغم أن الاتفاقات والمواثيق الدولية تكفل له حقوقًا واضحة باعتباره دولة مصب”، مؤكدًا أن “الموضوع لا يقتصر على الطقوس أو الجانب الديني، بل يمس حياة الناس جميعًا اليومية وحقهم في الحصول على مياه صالحة للشرب، فالحياة لا يمكن أن يكون لها بديل، على عكس بعض الطقوس التي قد تُمارس بطرق مختلفة”.
وحول الهجرة بين أتباع الديانة المندائية، أوضح رومي أن “موجات الهجرة ليست وليدة أزمة المياه، بل تعود إلى فترات سابقة، إذ بدأت منذ نهاية السبعينيات بسبب حملات النظام الدكتاتوري ضد القوى الوطنية، ثم تكررت خلال فترة الحصار نتيجة صعوبة المعيشة، إلا أن الموجة الأكبر كانت بعد عام 2003 بسبب التهديدات والخطف والمضايقات التي طالت أبناء الأقليات، ما أدى إلى هجرة أعداد كبيرة منهم إلى خارج العراق”.
وتابع رومي حديثه بالقول إن “بين عامي 2003 و2010 كانت المياه لا تزال متوفرة نسبيًا، لكن الهجرة استمرت لأسباب أمنية واجتماعية أعمق من مجرد الجفاف، ما يعني أن أزمة المياه اليوم هي جزء من سلسلة طويلة من الأزمات التي تهدد التنوع والوجود الإنساني في البلاد”.
وتقول رفاه حسين الهلالي، المحامية والباحثة الاجتماعية في المحكمة المندائية ببغداد، إن أبناء الطائفة يحرصون على إقامة طقوسهم الدينية عند ضفاف الأنهار، فـ”في بغداد نقيم طقوسنا على نهر دجلة، أما في الناصرية فعلى ضفاف نهر الفرات، وكذلك في بقية المحافظات بحسب موقع النهر”.
غير أن انخفاض مناسيب المياه في الفترة الأخيرة أثّر بشكل مباشر على ممارسة هذه الطقوس، إذ تشير الهلالي لـ”المدى”، إلى أن “نزول المياه وانخفاض مستواها يسبب صعوبة للشيوخ عند أداء طقوسهم، خصوصًا أن الشيوخ لديهم طقوس يمارسونها بشكل مستمر، ومعظم هذه الطقوس تُقام يوم الأحد، وهو يوم مقدس لدى المندائيين”.
وتضيف أن أحد شيوخ الطائفة، ويدعى أنمار، تعرض لإصابة في ظهره أثناء نزوله إلى النهر لإتمام إحدى المراسيم الدينية، بسبب انخفاض منسوب المياه وصعوبة الوصول إلى المكان المخصص للاغتسال والتعميد.
لكن الهلالي تؤكد أن الطائفة سارعت إلى إبلاغ الجهات الحكومية بالمشكلة، وقد “استجابت الحكومة، وتحديدًا وزارة الموارد المائية، بشكل سريع، مما ساهم في تدارك الموقف وضمان استمرار إقامة الطقوس بشكل طبيعي”.
وتتابع حديثها بالقول: “الطقوس عادت طبيعية كما اعتدنا بفضل هذا التدارك الحكومي”.










