TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > زوهران مامداني: فوز مدينة لا فوز طائفة

زوهران مامداني: فوز مدينة لا فوز طائفة

نشر في: 10 نوفمبر, 2025: 12:01 ص

محمد علي الحيدري

لم يكن فوز زوهران مامداني بمنصب عمدة نيويورك حدثًا انتخابيًا فحسب، بل لحظة رمزية في مسار السياسة الأمريكية الحديثة، إذ بدا كأنه يختصر حكاية طويلة عن التحول الثقافي والاجتماعي في مدينة لا تشبه إلا نفسها. ومع ذلك، فإن بعض الخطابات التي احتفت بهذا الانتصار بوصفه "فوزًا إسلاميًا" بدت وكأنها تُصغّر ما هو كبير، وتحوّل منجزًا مدنيًا شاملًا إلى غنيمة هوياتية ضيقة.
فمامداني لم يترشح باسم دينه ولا قوميته، بل باسم مدينة تؤمن بالتعددية، وتختنق من احتكار السلطة والمال. خاض معركة انتخابية في واحدة من أكثر المدن تنوعًا في العالم، ونجح لأنه تحدث بلغة الناس لا بلغة الطوائف، ولأنه صاغ مشروعه السياسي انطلاقًا من معاناة الشوارع لا من منابر العقيدة. لقد خاطب المهاجرين والعمال والفقراء وأصحاب المشاريع الصغيرة، لكنه في الوقت ذاته لم يُقصِ الأثرياء أو المختلفين فكريًا، بل دعا إلى عدالة تشاركية تُعيد إلى نيويورك توازنها المفقود بين الرأسمال والإنسان.
إن اعتبار فوز مامداني نصرًا إسلاميًا فيه جناية على المعنى الحقيقي للحدث. فالرجل لم يُرد أن يكون "عمدة المسلمين"، بل أن يكون عمدة مدينةٍ للجميع. هو ابن تجربة إنسانية لا دينية، فيها الإسلام أحد مكوناتها لا عنوانها الوحيد. لقد وُلِد في بيت مهاجرٍ من أوغندا والهند، وتشرّب من مدينته درسها الأول: أن الانتماء الأوسع هو للمدينة ذاتها، لا للهوية الفرعية.
ما فعله مامداني أنه أعاد تعريف القيادة من موقع الهامش دون أن يجعل من الهامش جدارًا. كسر احتكار النخب السياسية والاقتصادية، وتحدث عن حقوق العمال والمهاجرين بلغة لا تثير العداء بل تستدعي المشاركة. وحين وجّه انتقاداته إلى سياسات الرئيس ترامب، لم يفعل ذلك بوصفه ممثلًا لمجتمع ديني، بل بوصفه صوتًا للعدالة الاجتماعية التي تتجاوز اللون والمعتقد.
فوزه ليس انتصارًا لإسلامٍ سياسي ولا لتيارٍ ديني، بل عودة لروح المواطنة التي ظلت غائبة تحت ركام الصراع الأيديولوجي. ولعل في ذلك درسًا بليغًا للمسلمين داخل أمريكا وخارجها: أن الطريق إلى الكرامة والاحترام لا يمر عبر استدعاء الهوية في السياسة، بل عبر الإسهام في بناء مجتمعاتٍ عادلة تُنصف الجميع.
زوهران مامداني لم ينتصر كـ"مسلم"، بل كـ"نيويوركي" آمن بأن المدينة التي فتحت ذراعيها للعالم تستحق أن يحكمها من يؤمن بالعالم كله.
وفي زمنٍ تتنازع فيه الأمم على هوية الحاكم قبل عدالته، يبدو أن نيويورك - مرة أخرى - سبقت الآخرين، فاختارت في عمدةٍ واحد أن تُعلن أن التنوع ليس شعارًا، بل مشروع حكمٍ كامل.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

جميع التعليقات 2

  1. وضاح عبد العزيز ابو التمن

    منذ 1 شهر

    اجدت في توصيف العمده مامديني و في توصيف نيويورك الاخ محمد علي الحيدري .انه صاحب مشروع اصلاحي و فاز بمنهاجه الانتخابي، ليس بانتماءه الديني . تحياتي و احترامي.

  2. Mazin Kamouna

    منذ 1 شهر

    احسنت النشر مقال رائع بكل معنى الكلمه

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

هل ستعيد التشكيلة الوزارية الجديدة بناء التعليم العالي في العراق؟

العمود الثامن: معركة كرسي رئيس الوزراء!!

العمود الثامن: من كاكا عصمت إلى كاكا برهم

العمود الثامن: يزن سميث وأعوانه

العمود الثامن: عبد الوهاب الساعدي.. حكاية عراقية

العمود الثامن: يزن سميث وأعوانه

 علي حسين منذ أيام والجميع في بلاد الرافدين يدلي بدلوه في شؤون الاقتصاد واكتشفنا أن هذه البلاد تضم أكثر من " فيلسوف " بوزن المرحوم آدم سميث، الذي لخص لنا الاقتصاد بأنه عيش...
علي حسين

كلاكيت: مهرجان دهوك.. 12 عاماً من النجاح

 علاء المفرجي يعد مهرجان دهوك السينمائي مجرد تظاهرة فنية عابرة، بل تحوّل عبر دوراته المتعاقبة إلى أحد أهم المنصات الثقافية في العراق والمنطقة، مؤكّدًا أن السينما قادرة على أن تكون لغة حوار، وذاكرة...
علاء المفرجي

فـي حضـرة الـتـّكـريــم

لطفيّة الدليمي هناك لحظاتٌ تختزل العمر كلّه في مشهد واحد، لحظاتٌ ترتفع فيها الروح حتّى ليكاد المرء يشعر معها أنّه يتجاوز حدود كينونته الفيزيائية، وأنّ الكلمات التي كتبها خلال عمر كامل (أتحدّثُ عن الكاتب...
لطفية الدليمي

سافايا الأميركي مقابل ريان الإيراني

رشيد الخيّون حصلت أكبر هجرة وتهجير لمسيحيي العراق بعد 2003، صحيح أنَّ طبقات الشعب العراقي، بقومياته ومذاهبه كافة، قد وقع عليهم ما وقع على المسيحيين، لكن الأثر يُلاحظ في القليل العدد. يمتد تاريخ المسيحيين...
رشيد الخيون
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram