محمد علي الحيدري
لم يكن فوز زوهران مامداني بمنصب عمدة نيويورك حدثًا انتخابيًا فحسب، بل لحظة رمزية في مسار السياسة الأمريكية الحديثة، إذ بدا كأنه يختصر حكاية طويلة عن التحول الثقافي والاجتماعي في مدينة لا تشبه إلا نفسها. ومع ذلك، فإن بعض الخطابات التي احتفت بهذا الانتصار بوصفه "فوزًا إسلاميًا" بدت وكأنها تُصغّر ما هو كبير، وتحوّل منجزًا مدنيًا شاملًا إلى غنيمة هوياتية ضيقة.
فمامداني لم يترشح باسم دينه ولا قوميته، بل باسم مدينة تؤمن بالتعددية، وتختنق من احتكار السلطة والمال. خاض معركة انتخابية في واحدة من أكثر المدن تنوعًا في العالم، ونجح لأنه تحدث بلغة الناس لا بلغة الطوائف، ولأنه صاغ مشروعه السياسي انطلاقًا من معاناة الشوارع لا من منابر العقيدة. لقد خاطب المهاجرين والعمال والفقراء وأصحاب المشاريع الصغيرة، لكنه في الوقت ذاته لم يُقصِ الأثرياء أو المختلفين فكريًا، بل دعا إلى عدالة تشاركية تُعيد إلى نيويورك توازنها المفقود بين الرأسمال والإنسان.
إن اعتبار فوز مامداني نصرًا إسلاميًا فيه جناية على المعنى الحقيقي للحدث. فالرجل لم يُرد أن يكون "عمدة المسلمين"، بل أن يكون عمدة مدينةٍ للجميع. هو ابن تجربة إنسانية لا دينية، فيها الإسلام أحد مكوناتها لا عنوانها الوحيد. لقد وُلِد في بيت مهاجرٍ من أوغندا والهند، وتشرّب من مدينته درسها الأول: أن الانتماء الأوسع هو للمدينة ذاتها، لا للهوية الفرعية.
ما فعله مامداني أنه أعاد تعريف القيادة من موقع الهامش دون أن يجعل من الهامش جدارًا. كسر احتكار النخب السياسية والاقتصادية، وتحدث عن حقوق العمال والمهاجرين بلغة لا تثير العداء بل تستدعي المشاركة. وحين وجّه انتقاداته إلى سياسات الرئيس ترامب، لم يفعل ذلك بوصفه ممثلًا لمجتمع ديني، بل بوصفه صوتًا للعدالة الاجتماعية التي تتجاوز اللون والمعتقد.
فوزه ليس انتصارًا لإسلامٍ سياسي ولا لتيارٍ ديني، بل عودة لروح المواطنة التي ظلت غائبة تحت ركام الصراع الأيديولوجي. ولعل في ذلك درسًا بليغًا للمسلمين داخل أمريكا وخارجها: أن الطريق إلى الكرامة والاحترام لا يمر عبر استدعاء الهوية في السياسة، بل عبر الإسهام في بناء مجتمعاتٍ عادلة تُنصف الجميع.
زوهران مامداني لم ينتصر كـ"مسلم"، بل كـ"نيويوركي" آمن بأن المدينة التي فتحت ذراعيها للعالم تستحق أن يحكمها من يؤمن بالعالم كله.
وفي زمنٍ تتنازع فيه الأمم على هوية الحاكم قبل عدالته، يبدو أن نيويورك - مرة أخرى - سبقت الآخرين، فاختارت في عمدةٍ واحد أن تُعلن أن التنوع ليس شعارًا، بل مشروع حكمٍ كامل.











جميع التعليقات 2
وضاح عبد العزيز ابو التمن
منذ 4 أسابيع
اجدت في توصيف العمده مامديني و في توصيف نيويورك الاخ محمد علي الحيدري .انه صاحب مشروع اصلاحي و فاز بمنهاجه الانتخابي، ليس بانتماءه الديني . تحياتي و احترامي.
Mazin Kamouna
منذ 3 أسابيع
احسنت النشر مقال رائع بكل معنى الكلمه