محمد حميد رشيد
أكثر التوقبسافايا تفائلة والمتشائمة في العراق تبني على أهمية الدور الأمريكي في المرحلة القادمة، وأن الدور الأمريكي القادم في هذه المرحلة جاء بقوة للتغيير على غرار المتغيرات في المنطقة العربية (فلسطين وسوريا ولبنان) وكذلك في إيران، وليس هناك متغيرات مهمة في بقية دول المنطقة، إن لم تكن قد زادت استقراراً وزاد الدعم السياسي الأمريكي لها أو مجرد تهديدات وتصريحات إعلامية!
وحتى هذه المتغيرات في (فلسطين ولبنان وسوريا وإيران) متغيرات محدودة، فبعد كل الذي جرى، وعلى مدى أكثر من سنتين من الحرب الفلسطينية الإسرائيلية في غزة والمجازر البشعة وقصف المدنيين وتدمير المدن المسالمة، ورغم الهزة الكبرى في عموم المنطقة التي بدأت تبحث عن مخرج للقضية الفلسطينية الذي طال انتظاره، وحتى (حل الدولتين) الذي يحمل الشرعية الدولية والأممية والذي تم إقراره من قبل مجلس الأمن بقراره رقم 242 (1967)، الذي دعا إلى انسحاب القوات الإسرائيلية من الأراضي المحتلة، واعتُبر لاحقاً أساساً لحل الدولتين، وكذلك اتفاق أوسلو عام 1993 الذي اعتمدته منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل كإطار للتفاوض على أساس دولتين، وكذلك تبنت الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 2025 إعلان نيويورك الذي يؤيد تنفيذ حل الدولتين وإقامة دولة فلسطينية مستقلة بأغلبية 142 صوتاً.
وبدلًا من تبني قرارات الشرعية الدولية يقدم الرئيس الأمريكي ترامب دعمه الكبير إلى نتنياهو، بل ويشجعه على استكمال تدمير المدن وقتل المدنيين، ويعجز عن فرض حل الدولتين بصفته الوسطية وبما يحمل من شرعية دولية بل من رعاية أمريكية سابقة، والذي يكفل إنهاء الصراعات الفلسطينية الإسرائيلية والذي قبلته معظم الدول العربية، بل تغافل عن ذلك تماماً، ولا زال الإسرائيليون ينتهكون يومياً قرار وقف إطلاق النار الذي أطلقه ترامب نفسه، مما يهدد بانهيار كل شيء، وكل هم ترامب حالياً هو دعم نتنياهو (بيبي) وأمن إسرائيل الذي مقدم على أمن المنطقة بأجمعها، وإن كان ثمنه مزيداً من الضحايا الأبرياء، والخلاصة أن التغيير كان نحو الأسوأ.
وأما في لبنان فالتغيير محدود جداً، فما عدا الضربة الإسرائيلية على حزب الله التي خططت لها ونفذتها إسرائيل بدعم فني أمريكي، حتى ليبدو للمراقب أن أمريكا تخدم إسرائيل أكثر من كون إسرائيل خاضعة للإدارة الأمريكية، وإن ما حدث في لبنان تم بإرادة إسرائيل وليس بإرادة أمريكية، ولم نلمس شيئاً كبيراً في مبادرات المبعوث الأمريكي إلى لبنان (توماس باراك)، بل لعل أبرز ما قدمه المبعوث الأمريكي هذا هو:
A. عرض توماس باراك على الحكومة اللبنانية ورقة تفاهم تتضمن خطوات تهدئة وتفاهم مع إسرائيل، لكنه أكد أن لبنان حر في اختيار مساره الخاص، وزعم أنها الحل الحقيقي للأزمة اللبنانية.
B. تثبيت وقف إطلاق النار بين إسرائيل ولبنان، وزار باراك بيروت أربع مرات منذ يونيو 2025، في إطار متابعة جهود وقف إطلاق النار، ومع هذا فقد تصاعدت التوترات الحدودية وكررت إسرائيل هجماتها المستمرة على لبنان والجنوب اللبناني، بعلم أمريكي بل بدعم أمريكي.
C. وبالعكس، كان له موقف حاد من الوضع اللبناني، بل وصف باراك لبنان بأنه "دولة فاشلة" دون أي تعريض أو مساس بإسرائيل التي تنتهك كل الاتفاقيات الدولية، ما يعكس موقفاً أمريكياً متشدداً تجاه الوضع السياسي والاقتصادي في البلاد، وبدون أي رغبة أمريكية حقيقية لإصلاح الأوضاع في لبنان، بل لم تكلف أمريكا نفسها بتقديم أي دعم مالي للبنان.
D. ولو راجعنا تصريحات توماس باراك فيما يتعلق بالدعم الاقتصادي، لوجدناها عائمة ولا تشكل أي تأثير مباشر على الاقتصاد اللبناني، ومنها الاستثمارات النفطية التي ربطت واشنطن دعمها الاقتصادي هذا إلى لبنان بملف ترسيم الحدود البحرية والبرية، وكذلك شدد على ضرورة بسط سلطة الدولة وحصر السلاح بيدها، معتبراً ذلك شرطاً أساسياً لأي دعم اقتصادي أو استثماري، بمعنى آخر أن المساعدات الاقتصادية الأمريكية للبنان ما تزال مشروطة سياسياً وأمنياً، ولم تتحول بعد إلى دعم مالي مباشر أو مشاريع ملموسة.
والخلاصة أن التحركات الأمريكية في لبنان تبدو مركزة على احتواء التصعيد مع إسرائيل ودفع الأطراف اللبنانية نحو تسوية إقليمية، وليس هناك أي تغيير استراتيجي في لبنان، بل نقلت "هآرتس" عن الجيش الإسرائيلي: "محاولات حزب الله إعادة بناء قدرته العسكرية ازدادت وقد تؤدي إلى توسيع عملياتنا العسكرية"، وهذا يعني أن عمليات الجيش الإسرائيلي لم تنقطع، وأن السلام في لبنان لا يزال بعيداً مع وجود توماس باراك (المبعوث الأمريكي إلى لبنان).
أما في سوريا فإن ترامب يدعي دائماً قربه من النظام السوري الحالي ومن رئيسه أحمد الشرع، وبدأت الولايات المتحدة تتجه نحو التعاون المباشر مع الحكومة السورية الجديدة، معتبرة أن التعامل معها هو السبيل الوحيد لتوحيد البلاد، وأنها تدعم مرحلة انتقالية تقودها الأمم المتحدة؛ تلك هي السياسة المعلنة للولايات المتحدة مع سوريا، ولكن الواقع على الأرض عكس ذلك تماماً، فقوات سوريا الديمقراطية لا زالت نشطة ومسلحة وتقوم بأعمال عنف ضد الحكومة السورية الحالية برضا وسكوت أمريكي، وفي الساحل تفاقمت المشاكل مع العلويين، وفي الجنوب لا زال الدروز يشكلون تهديداً قوياً لوحدة سوريا، وأما الجيش الإسرائيلي فقد تجاوز الجولان والقنيطرة متوغلاً إلى ريف درعا وسط صمت وخجل الإعلام السوري، عدا كون الغارات الإسرائيلية على سوريا ودمشق تحديداً مستمرة.
وفي كل الأمثلة السابقة نجد أن السلام الذي يتحدث عنه ترامب والإدارة الأمريكية هو إطلاق يد إسرائيل في العبث بأمن المنطقة بأكملها.
أما الصورة في العراق فهي مضحكة مبكية، سواء من المعارضين للنظام العراقي الحالي أو الموالين له، وكلاهما ينتظرون ترامب قادماً لهم ليحررهم أو ليستعبدهم، وهو يأتي ولا يأتي، واضعاً الجميع تحت تأثير خدعه وتهديداته عن طريق مساعديه، ودون ذلك لم يتغير شيء ولن يتغير، بل إن تعيين مارك سافايا جاء لسد فراغ عدم وجود سفير فاعل في العراق ولتعزيز العلاقات الثنائية فعلياً (كما يصر الأمريكيون) وتوسيع قنوات التواصل وتبادل المصالح، وذلك متاح جداً في العراق، فالجميع هنا يقدمون العروض المغرية، وعلى سافايا أن يختار الأفضل لهم، ومن الطبيعي أن يكون لوجوده التأثير المباشر على الانتخابات البرلمانية العراقية، بل لعل وجوده يقرب المسافات ويختصر الزمن بين كل الأطراف المتحاصصة على السلطة والإدارة الأمريكية، ومن الطبيعي أن تكون كل القوى الأمريكية في المنطقة تحت سلطته، ومنها الجيش الأمريكي، وهذا ليس بالغريب، فرغم مشروع ترامب لإحلال السلام في غزة، والذي وقعته مع أمريكا الدول الراعية الساكتة قطر وتركيا ومصر والسعودية والإمارات، لا زالت إسرائيل تعتدي على غزة جهاراً نهاراً وتضغط على مصر وتهاجم سوريا وتحتل مناطق أخرى من سوريا، واعتداءاتها مستمرة على لبنان، ولا زالت الجريمة ضد الإنسانية قائمة في السودان، وهي تغض النظر عن المأساة هناك كأنها لا تدري!
ولا زالت الحرب الأوكرانية الروسية مستعرة، وفي كل يوم تصريح أمريكي جديد يناقض الذي قبله، ولا زالت الفوضى الأمريكية تتسع، ولا زال العجز الأمريكي أمام روسيا وأمام الصين واضحاً، ولم تُبصر عيناك، يا سيدي الجميلتان الناعستان، مئات القتلى وآلاف الجرحى والمختطفين والمغتصبات في نيجيريا، وقفزتا من محجريهما لمقتل المسيحيين هناك، رغم كونك حاكم العالم ورئيس مجلس إدارة الأرض، ولم تُبصر كل مآسي الإيغور ومظلومية الروهينغيا والأقليات المضطهدة حول العالم، وأبصرت الهولوكوست في الحقبة النازية.
يا سيدي رئيس العالم، لماذا بصرك ضعيف لا يبصر الواقع ولا يرى ما فعله بيبي في غزة؟ لم يُبق حجراً على حجر، وقتل الأطفال في أحضان أمهاتهم. نعم، انكشفت خديعتك وبان تحيزك، هي خدعة أمريكية بين الأحلام والكوابيس والوعود الفارغة والتهديدات الجوفاء، ولو أرادت أمريكا التغيير نحو الأحسن في العراق وسماع صوت الشعب العراقي وإحلال ديمقراطية حقيقية بدل المزيفة لكان ذلك باستطاعتها وبسهولة، ولا تحتاج إلى كل هذه الفوضى والأكاذيب ولا كل هذه الحشود الإعلامية والعسكرية الوهمية. فقط عليها، وبصفتها دولة عظمى، وبصفة كون ترامب رئيس مجلس إدارة العالم والحاكم الفعلي له، وبدلاً من الانقلابات والحروب التي تأتي على الأخضر واليابس وتهلك الحرث والنسل، وبدلاً من المسرحيات السخيفة التي نشهدها على الساحة السياسية العراقية، وبدلاً من فرض العقوبات الفارغة، وبدلاً من كل هذا، هل يستطيع حاكم العالم أن يضمن صحة الانتخابات البرلمانية العراقية وأن يشجع الشعب العراقي على المشاركة الحرة في انتخابات نزيهة بضمانات قانونية أمريكية ودولية؟ وقد يرضى هذا كل نزيه وديمقراطي حر، بدلاً من التهديد بالقوة وبمشاركة دولية.
وبالمناسبة، الشعب لا يثق بسافايا الذي يمكن أن يُباع ويُشترى، وإن اعتماد حاكم العالم على القوة وخلق الفوضى للمرور من خلالها إلى أهدافه ومطامعه، من دون أي اهتمام بالتوجهات الحضارية أو الإنسانية، لذا فهو آيل للسقوط في ارتداد القوة أو نتيجة الفوضى.










