TOP

جريدة المدى > عام > كتاب "الحيوات".. سيرة مارغريب أتوود كما ترويها بنفسها

كتاب "الحيوات".. سيرة مارغريب أتوود كما ترويها بنفسها

نشر في: 10 نوفمبر, 2025: 12:02 ص

بليك موريسون
ترجمة: رمزي ناري
مارغريت أتوود لم تكن ترغب في كتابة مذكّراتٍ أدبيّة؛ كانت تخشى أن تكون مملّة – "كتبتُ كتابًا، ثمّ كتابًا ثانيًا، ثمّ آخر..." كانت تدرك أنّ بعض القصص عن الإفراط في الشرب، والحفلات الماجنة، والتجاوزات الجنسيّة ربما كانت لتُضفي عليها شيئًا من الإثارة، لكنها ببساطةٍ لم تعش حياتها على هذا النحو.
وفي النهاية، ما كتبته ليس مذكّراتٍ بقدر ما هو سيرةٌ ذاتيةٌ كاملةٌ تمتدّ على مدى خمسةٍ وثمانين عامًا. فبينما تميل معظم السير الذاتيّة إلى أن تكون إما متباهية بانتصاراتها أو متوتّرة في تبرير ذاتها، فإنّ كتابها يأتي حادًا، ساخرًا، ووديًا؛ كتابٌ يمكنك أن تقرأه وتحبّه حتى لو لم تكن ملمًا بكل تفاصيل نتاجها الأدبيّ المذهل، الذي يملأ صفحتين كاملتين من فهرس أعمالها الأخرى.
كانت محظوظةً بأبويها: والدها كارل، عالم الحشرات وعاشق الغابات، ووالدتها مارغريت، المرأة المسترجلة النشيطة، وكلاهما من نوفا سكوشا. وبسبب أعمال والدها في الحشرات والغابات، كانت العائلة تقضي نصف العام في الأدغال، أحيانًا بلا كهرباء ولا مياهٍ جاريةٍ ولا هاتفٍ. كانوا يُخيّمون في خيامٍ أو أكواخٍ على ضفاف البحيرات، بينما كان كارل يقطع الأشجار لبناء كوخ خشبيّ.
أمّا مارغريت الصغيرة – أو بيغي كما يُناديها الجميع – فقد عشقت الحياة في الهواء الطلق؛ تعلّمت صيد السمك، والتجديف، وجمع الثمار، والبحث عن الأصداف، وقطف التوت، والاستمتاع بالطيور والحشرات، وجمع الفطر والضفادع. في المخيّم الصيفيّ، في مراهقتها، كانت تُعرَف باسم "بيغي الطبيعة".
وفي الخريف كانت العائلة تعود إلى أوتاوا أو تورنتو، كأنّهم فئران الريف التي تحوّلت إلى فئران المدينة – كانوا بارعين في كليهما. في السادسة كتبت أولى قصائدها القصيرة بعنوان "القطط المقفّاة". مضت حياتها المدرسية بسلاسة حتى الصفّ الرابع، حين اختبرت "الطبيعة غير المتوقعة، والملتوية والمخادعة للسياسات الغامضة التي تمارسها الفتيات في التاسعة والعاشرة من العمر".
تعرّضت للتنمّر والإهانة والتهميش، لكنها كسرت تلك الدائرة بعد عام، فيما تصفه بـ "لحظة أليس في بلاد العجائب"، لتحدّي مضايقيها. تلك التجربة علّمتها درسًا قيّمًا وجد طريقه لاحقًا إلى روايتها "عين القطة".
في المرحلة الثانوية المختلطة التي اختارتها بنفسها ("مدرسة مليئة بالفتيات فقط ولا شيء سوى الفتيات كانت في نظري الدائرة التاسعة من الجحيم")، سرعان ما تخرّجت إلى "صفّ الأدمغة". كانت فتاةً صغيرة، نحيفةً، ذات صدرٍ مسطّح، غريبة الأطوار، ذات نظاراتٍ سميكةٍ وأسنانٍ معوجّةٍ، وشعرٍ مجعّدٍ، وانحرافٍ بصريّ، وفقر دمّ؛ أفرغت طاقاتها في الخياطة والملابس التنكريّة.
ظهرت لأوّل مرة على التلفاز لتعرض حيوانها الأليف فرس النبيّ "لينور". في الرابعة عشرة، بدأت تُواعد فتيانًا وفنانين أكبر سنًا، يظهرون فجأة "كالفطر بعد المطر". أما أشعارها المبكّرة فكانت "حافلة بالمبالغة والموت". ووفقًا للكتاب السنوي لمدرستها، فإن "طموح بيغي غير السرّي أن تكتب الرواية الكندية". غير أنّ أولى منشوراتها كانت قصائد وقّعتها باسم M. E. Atwood "لئلا تُوصم بكونها فتاة". هناك، ظهرت ذاتها الكاتبة الجديدة: لم تعد "بيغي المشرقة كالنهار"، بل «شخص أكثر ظلامًا وشرًا هو ME".
بعد دراستها الجامعية في تورنتو، حيث درست مع أكاديميّين عمالقة مثل مارشال ماكلوهان ونورثروب فراي، انتقلت إلى هارفارد بمنحة دراسية متواضعة. هناك بحثت في "محاكمات ساحرات سالم"، التي أصبحت لاحقًا – إلى جانب البُنى الأبوية في الجامعة – من البذور التي أنبتت "حكاية الخادمة" ]تُرجمت إلى العربية بعنوان "حكاية الجارية" – المترجم[.
تربط أتوود بين حياتها وأعمالها في جميع فصول الكتاب، وإن لم تفعل ذلك بشكلٍ فظّ كالرجل الذي قال لها في إحدى الفعاليات: "حكاية الخادمة هي سيرتكِ الذاتية". كثير من القرّاء سيلجؤون أولًا إلى تأمّلاتها في تلك الرواية. فهي لم تكن ناشطة نسوية في عشرينيّاتها، إذ لم يكن مفهوم "تقاسم الأعمال المنزلية بالتساوي" قد ظهر بعد. لكنها انشغلت بشكلٍ متزايد بمسألة اضطهاد النساء، وبحلول الوقت الذي أُنتِج فيه المسلسل التلفزيوني في زمن الترامبية،1 صارت روايتها أكثر بروزًا من أي وقت مضى.
جاءت انطلاقتها مبكرًا، في أوائل الثلاثينيات من عمرها. كانت قد حقّقت بداية واعدة، وفازت بجائزة الحاكم العام (أرفع الجوائز الكندية)، ونشرت روايتين، وتركت بصماتها في بريطانيا والولايات المتحدة. ثم عرضت المساعدة على دار النشر الصغيرة أنانسي بإعداد كتابٍ يحتفي بالأدب الكندي. خلال أربعة أشهر كتبت «البقاء: دليل موضوعي للأدب الكندي»، الذي باع مئة ألف نسخة وأنقذ الدار من الإفلاس لسنوات.
أثار هذا النجاح الغيرة والحقد. حذّرها والدها يومًا: "لسانكِ الذكي سيوقعكِ في المتاعب"، وقد كان. هوجمت باعتبارها قاتلة الرجال، سليطة اللسان، مرعبة، لم تعد تلك الفتاة اللطيفة من خمسينيات القرن الماضي، بل حورية مدمّرة بلا رحمة.
توالت الروايات بعد ذلك، لكنها تلاحظ أن "الكنديين عرضة للأستياء من نجاح الكنديين الآخرين". وبما أنّ "الاحتفال المفرط بإنجازات المرء يُعدّ خرقًا فادحًا للياقة"، فهي لا تُكثر من مدح نفسها، بل تُكرّم في كتابها أصدقاءها ومحرّريها ووكلاءها ومنتجي الأفلام والكتّاب الذين ساندوها - وبعضهم أسماء غير معروفة.
كما تكشف عن جانبٍ أكثر غرابة: إيمانها بالأبراج، وقراءة الكف، وطرد الأرواح الشريرة! تُحبّ الحياكة، وإعداد الفطائر، وتزيين الكيك، وتنظيف الحديقة – فـ "ما لا تعرفه ناسجة الصوف بيغي عن تنظيف المراحيض لا يُستحق أن يُعرف". هذه المرأة البسيطة تتعايش بسلام مع الروائية الديستوبية. ترسم أيضًا – ورسوماتها تُزيّن صفحات الكتاب، فليس الأمر كلّه مقتصرًا على الكتابة.
في حفلة عام 1969 التقت غرايم غيبسون، روائيًا محتالًا، متهوّرًا، طيّب القلب. كان يرتدي بنطال دِنيم أزرق، وهي ترتدي "فستانًا قصيرًا من الدانتيل الأبيض بأزرار خشبية". (أتوود تروي بدقّة تفاصيل ملابسها وتسريحات شعرها المتغيّرة). لم تُدرك في البداية اهتمامه "غير الأفلاطوني بها".
ولكن الأمور تعقّدت: تزوّجت من شاعر أمريكي – لا حبًا بل لتجنّبه الخدمة في فيتنام – أما غرايم فكان له طفل من امرأة تُدعى شيرلي، تعيش زواجًا مفتوحًا. تبعتها فترة من الغزل الحذر؛ تودّد غرايم إلى بيغي برسائل مفعمة بالشوق. قال لها: "لو لم ألتقِ بكِ، لكنت ستصبحين روائية عظيمة، لكن حياتكِ كانت ستكون أقل بهجة".
بذلت شيرلي قصارى جهدها لإيقاف البهجة. تصفها آتوود بمرارةٍ خفيفة، بشأن استعبادها لغرايم للقيام بالأعمال المنزلية في بيتها، بينما كانت تخرج في مواعيد غرامية وتشوّه سمعة بيغي بأنها "مخرّبة للبيوت". ومع أنّ بعض النقاد والصحفيين نالوا نصيبهم من السخرية، تبقى شيرلي من القلائل الذين يظهرون بصورة سلبية في الكتاب. لكنها تُخفّف من حدّة غضبها عبر حواراتها الهزلية مع كاتبة عمود نصائح داخلية تُوصيها بالهدوء والتعقّل.
الكتاب مليء بالحكمة الموجزة و "دروس الحياة"، كما تُسميها. وقد عاشت مع غرايم نصف قرن من العمر: أنجبا ابنة، وعملا في زراعة الأرض والحدائق، والتخييم، وركوب القوارب، ومراقبة الطيور، والسفر حول العالم.
في سنواته الأخيرة المظلمة مع الخرف والموت، تُضفي على الصفحات الأخيرة من الكتاب نغمة حزينة. وكعادتها في العمل الدؤوب، اختارت العمل بدل الغياب، وشاركت في جولات الترويج لروايتها "الوصايا" (تكملة حكاية الخادمة):
"اسأل نفسك، أيها القارئ العزيز: هل اخترتُ جدولًا مزدحمًا أم كرسيًا فارغًا؟ اخترتُ الجدول المزدحم، فالكرسي الفارغ كان سينتظرني في البيت".
هي الآن تحمل منظّمًا لضربات القلب، وتُدرك أن جسدها "سيقرّر يومًا أن يخرج في مغامرةٍ خاصةٍ به"، لكنّ عقلها وجسدها ما زالا متّحدين، وكذلك ذواتها الكثيرة التي تكشفها لنا في "عاصفةٍ ثلجية" من الذكريات والصور: العبقرية النابغة الغريبة، الشاعرة الرقيقة، النسوية بعيون ميدوزا، النبيّة الغامضة، وإحدى أعظم الروائيات في زماننا.
عن صحيفة الغارديان
1 تعبير «في زمن الترامبية» (in the era of Trumpism) في النص الأصلي الإنجليزي لا يُشير إلى زمن كتابة الرواية نفسها (أي The Handmaid’s Tale الصادرة عام 1985)، بل إلى زمن تجديد حضورها وانتعاشها الثقافي بعد انتخاب دونالد ترامب عام 2016، عندما أُنتج المسلسل التلفزيوني وأصبح رمزًا لمقاومة التسلّط الذكوري والسياسي في المخيلة الجماعية. (المترجم).

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق الدولي للكتاب

الأكثر قراءة

بروتريه: فيصل السامر.. قامة شامخة علماً ووطنيةً

موسيقى الاحد: 250 عاماً على ولادة كروسيل

الحكّاء والسَّارد بين "مرآة العالم" و"حديث عيسى بن هشام"

في مجموعة (بُدْراب) القصصية.. سرد يعيد الاعتبار للإنسان ودهشة التفاصيل الصغيرة

شخصيات اغنت عصرنا.. الملاكم محمد علي كلاي

مقالات ذات صلة

الكاتب يقاوم الغوغائية والشعبوية والرقابة
عام

الكاتب يقاوم الغوغائية والشعبوية والرقابة

أدارت الحوار: ألكس كلارك* ترجمة: لطفية الدليمي يروى كتابُ مذكرات لي ييبي Lea Ypi ، الحائز على جائزة، والمعنون "حُرّة Free" تجربة نشأتها في ألبانيا قبل وبعد الحكم الشيوعي. أما كتابُها الجديد "الإهانة indignity"...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram