TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > باليت المدى: امرأة تجمع الأخبار السيئة

باليت المدى: امرأة تجمع الأخبار السيئة

نشر في: 10 نوفمبر, 2025: 12:04 ص

 ستار كاووش

ها أنا أستعيد الآن جارتي القديمة جانيت التي توفيت قبل ثلاثة أيام في درينته، والتي كانت هوايتها هي جمع الأخبار السيئة. في الحقيقة كان اهتمامها الأساسي هو جمع الملاعق الفضية والأقداح الزجاجية القديمة التي تجدها غالباً في متاجر الأشياء المستعملة، لكن إضافة الى هذه الأشياء، كانت جاني تجمع أيضاً الأخبار السيئة. مرَّتْ على معرفتي بها عشرون سنة، وطوال هذا الوقت لم أسمع منها خبراً مفرحاً، كان بيتي السابق لصقَ بيتها، وأتذكر كيف كانت تنتظر رؤيتي لتدلق عليَّ الأخبار الكئيبة والمحزنة، وما ساعدها في مهمتها هو أنها تعرف كل أهالي القرية وتستبطن كل ما يدور فيها. كانت جارتي لا تتردد عن إيقافي لتقذف في وجهي تفاصيل غير متوقعة عن أحداث لا أحب سماعها.
تُرى من أين تستقي هذه الأخبار؟ كيف تجمعها كما يجمع أصحاب الهوايات أشياءهم الثمينة؟ وكأنها تملأ بها أقداحها القديمة. من أين لها هذا الصبر والجلد على أخبار تجلب النحس على أقل تقدير؟ ورغمَ إنتقالي من تلك القرية منذ بضع سنوات، لكني لم أنجُ من أخبار جارتي القديمة، فقد حرصتْ على إيصال الأخبار السيئة لي عن طريق التلفون أو حتى من خلال البطاقات البريدية. فهذه تركها زوجها وتلك قد تمت مشاهدتها في أحضان نادل المقهى، وأحد الجيران قد كُسرت ساقه وهو يحاول ادخال الابقار الى الحظيرة، وجار آخر فقدَ وظيفته بسبب إدمانه على النبيذ السيئ الذي تصنعه زوجته، وأحدهم عاقبه الله برعشة في ساقية لأنه يغش المقانق التي يبيعها لأهل القرية، والجارة الفلانية المتصابية مازالت لا تستطيع تكوين علاقة مع أي رجل رغم انها تصبغ شعرها كل يوم، وأخباراً كثيرة أخرى.
أعرف أن وفاة إبنتها في سن الخامسة عشرة قد أثرت عليها وجعلتها بحالة مزاجية سيئة، لكن مرت على ذلك سنوات طويلة، ثم أن هذا ليس مبرراً كافياً لإلتصاقها بالاحداث السيئة، حتى زوجها فرانك قد قرر بسببها أن يقضي أغلب أوقات الشتاء في غرفة بخلفية البيت، وفي الصيف كان يملأ الكارافان المربوط بخلفية سيارته بمجموعة من قناني النبيذ التي يصنعها في البيت مع بعض قطع الجبن الكبيرة المعتقة وينطلق نحو جنوب فرنسا ليقضي الوقت وسط الطبيعة. لا افهم كيف لم تنتبه للأمر أو تُعر هذه المسألة أهمية في حياتها! كأنها لا تعرف سوى النهوض من النوم صباحاً كي تلتقط الأخبار كما يلتقط المغناطيس برادة الحديد. ولم تكتف جانيت بذلك، بل صارت الأخبار السيئة مثل متوالية حزن لديها، وكانت تربطها وتحيكها مع بعضها كما كانت تُحيك كنزات الشتاء الصوفية لقطتها.
وبمناسبة القطة، فقد وصلتني منها قبل شهرين بطاقة بريدية طُبعتْ عليها لوحة للفنان بالتوس، الذي يُلقب بملك القطط حيث كان يرسمها في أغلب لوحاته. كانت لوحة البطاقة مذهلة تظهر فيها قطة تقف على حافة أريكة، فيما فتاة شابة تقرب مرآتها الصغيرة من وجه القطة، كانت خلفية اللوحة معتمة لكن ألوان الأريكة منحتْ سحراً للَّوحة. أخيراً تغيرتْ عادة جارتي، وهذا ما جعلني أتنفس الصعداء بوصول شيء مفرح منها، وخاصة لأني أحب أعمال بالتوس كثيراً. لكن ما أن فتحتُ البطاقة تبددت حيرتي وأنا اقرأ خبر وفاة قطتها التي كنتُ غالباً ما أراها وهي تتماحك بالأريكة المتهرئة. أعرف أن الهولنديين عند وفاة قريب لهم يرسلون بطاقات للأصدقاء والمعارف وافراد العائلة لإخبارهم بوقت مراسيم الدفن والتفاصيل الأخرى، لكن بطاقة خاصة بالقطة التي توفيت، هذا ما لم أتوقعه ولا أعرفه من قبل!
مع كل ذلك، لا يمكنني أن أنكر بأني قد شاهدتُ ذات مرة جارتي جانيت وهي تبتسم، ابتسامة باهتة كأنها على وشك أن تتحول الى تجهم. كانت مرَّة وحيدة لكنها إبتسامة بكل الأحوال. نعم رأيتها هكذا، أو بالأحرى رأيتُ صورتها التي تبتسم فيها، تلك الصورة التي وضعت في مقدمة نعشها الذي أقف أمامه الآن مودعاً. نظرتُ الى الصورة وتذكرت الأخبار السيئة التي كانت تجلبها من أماكن وغرف تبدو سرية. يا لحياة جارتي التي اختصرتها بإبتسامة واحدة مقابل آلاف الأخبار السيئة. تُرى ماذا كان سيحل بها لو عكست الموضوع وجلبت لي الأخبار السعيدة أثناء حياتها، وتجهمتْ مرة واحدة في صورة جنازتها؟ أكيد ستتغير أشياء كثيرة في حياتها وحياة زوجها ومعارفها، وحياتي أنا أيضاً. لكنها ذهبت هكذا مثل كثيرين يرحلون بعد حياة معكوسة دون أن ينتبهوا لذلك.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

هل ستعيد التشكيلة الوزارية الجديدة بناء التعليم العالي في العراق؟

العمود الثامن: معركة كرسي رئيس الوزراء!!

العمود الثامن: من كاكا عصمت إلى كاكا برهم

العمود الثامن: يزن سميث وأعوانه

العمود الثامن: عبد الوهاب الساعدي.. حكاية عراقية

العمود الثامن: يزن سميث وأعوانه

 علي حسين منذ أيام والجميع في بلاد الرافدين يدلي بدلوه في شؤون الاقتصاد واكتشفنا أن هذه البلاد تضم أكثر من " فيلسوف " بوزن المرحوم آدم سميث، الذي لخص لنا الاقتصاد بأنه عيش...
علي حسين

كلاكيت: مهرجان دهوك.. 12 عاماً من النجاح

 علاء المفرجي يعد مهرجان دهوك السينمائي مجرد تظاهرة فنية عابرة، بل تحوّل عبر دوراته المتعاقبة إلى أحد أهم المنصات الثقافية في العراق والمنطقة، مؤكّدًا أن السينما قادرة على أن تكون لغة حوار، وذاكرة...
علاء المفرجي

فـي حضـرة الـتـّكـريــم

لطفيّة الدليمي هناك لحظاتٌ تختزل العمر كلّه في مشهد واحد، لحظاتٌ ترتفع فيها الروح حتّى ليكاد المرء يشعر معها أنّه يتجاوز حدود كينونته الفيزيائية، وأنّ الكلمات التي كتبها خلال عمر كامل (أتحدّثُ عن الكاتب...
لطفية الدليمي

سافايا الأميركي مقابل ريان الإيراني

رشيد الخيّون حصلت أكبر هجرة وتهجير لمسيحيي العراق بعد 2003، صحيح أنَّ طبقات الشعب العراقي، بقومياته ومذاهبه كافة، قد وقع عليهم ما وقع على المسيحيين، لكن الأثر يُلاحظ في القليل العدد. يمتد تاريخ المسيحيين...
رشيد الخيون
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram