بغداد / المدى
في حوار صريح ومفتوح مع منصة «أساس ميديا» اللبنانية، قدّم رئيس مؤسسة المدى للإعلام والثقافة والفنون فخري كريم قراءة نقدية عميقة للمشهد العراقي بعد أكثر من عقدين على سقوط النظام السابق.
تحدّث كريم عن تحوّل الديمقراطية إلى «واجهة شكلية»، وعن تغوّل الميليشيات الولائية التي «تتحكم بالقرار السياسي وتنهب الدولة علنًا»، وعن فسادٍ قال إنه «يُفاخر به السياسيون علنًا وكأنه إنجاز».
وفي ملفات السياسة الخارجية، اعتبر كريم أن الخطر الحقيقي على العراق «من الداخل لا من الخارج»، مؤكدًا أن الحلّ يكمن في استعادة الإرادة الوطنية المستقلة بعيدًا عن التدخلات الإيرانية أو الأميركية، وفي الاعتماد على الحوار الداخلي الشامل لبناء دولة حديثة.
الحوار المتلفز الذي بثته «الاساس ميديا» عبر منصاتها كافة، تعيد «المدى» نشر مضمونه نصاً.
ديمقراطية شكلية
وقال فخري كريم إن وجود الميليشيات المسلحة والفساد الواسع جعل من العملية الديمقراطية «شكلاً بلا مضمون» ولا تداول فعلي للسلطة.
أوضح كريم أن مجريات الأمور منذ عام 2003 حتى اليوم تؤكد أن الديمقراطية العراقية تمرّ عبر صناديق اقتراع «بصيغتها الراهنة»، وفي ظلّ ميليشيات مسلحة ولائية، وفساد لم يشهد العراق مثيلًا له إطلاقًا، مما يجعل فكرة الديمقراطية الحقيقية بعيدة المنال.
وأضاف أن النهب العام في العراق «لا مثيل له ربما حتى في التاريخ الحديث»، مبينًا أنه إذا جرى استعراض أكثر البلدان فسادًا «فلن نجد صيغة مشابهة لما يحدث في العراق، لأنها علنية ومُزكّاة ويجري التباهي بها حتى أصبحت ثقافة مجتمعية للأسف الشديد».
وأشار كريم إلى أن بعض المظاهر السطحية مثل حرية التعبير في وسائل الإعلام لا تعني وجود ديمقراطية حقيقية، مضيفًا: «نعم، إذا كانت الديمقراطية تعني إمكانية أن تخرج على التلفزيون أو في وسائل الإعلام لتعبّر عن رأيك، فهذا موجود. ولكن هل هي هذه الديمقراطية؟ لا أظن».
وبيّن أن الديمقراطية الحقيقية تتطلب تداولًا فعليًا للسلطة، وهو ما لا يتحقق في العراق حاليًا، مؤكّدًا أن ما يجري ليس سوى تداول سطحي لا يعكس التغيير الحقيقي في موازين القوة داخل المجتمع أو الدولة.
وتساءل كريم: «كيف يمكن الحديث عن تداول للسلطة وهناك أكثر من 80%—بلا أدنى مبالغة—من المكوّن الشيعي الذي يدّعي هؤلاء اللصوص أنهم يمثّلونه، قاطعوا الانتخابات السابقة عزوفًا وعدم مشاركة؟».
مقاطعة الصدر
وفي معرض رده على سؤال حول مقاطعة زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر، قال فخري كريم إن الصدر يمتلك وجهة نظر «قد تكون محقّة» في مقاطعته الانتخابات ورفضه التعاون مع «سلطة فاسدة»، لكنه ارتكب «خطيئة كبيرة» بانسحابه من البرلمان بعد الانتخابات السابقة، مما أتاح للأقلية الحاكمة الانفراد الكامل بالسلطة.
وأوضح كريم أن موقف السيد مقتدى الصدر من مقاطعة الانتخابات يأتي من قناعة بأن القوى الحاكمة «فاسدة ولا تصلح للتعاون معها»، وأنه لا يريد «تزكيتها بالمشاركة»، مشيرًا إلى أن هذا الموقف مفهوم من حيث المبدأ وقد يكون في بعض جوانبه محقًا.
لكن كريم اعتبر أن الخطأ الأكبر الذي ارتكبه الصدر تمثّل في انسحابه من البرلمان بعد الانتخابات السابقة، رغم امتلاكه أغلبية برلمانية «ليست مريحة»، مضيفًا أن هذا القرار أضعف التوازن السياسي في البلاد وأفسح المجال لخصومه للسيطرة على السلطة.
وبيّن أن ما جرى بعد الانسحاب كان نتيجة «فبركة مستوردة من لبنان» تُعرف بـ«الثلث المعطِّل»، سمحت للأطراف الأخرى بالتحكم الكامل بمفاصل الحكم، لافتًا إلى أن الصدر ترك السلطة «بشكل مريح جدًا» على نحو لم يكن يتوقعه الحاكمون أنفسهم.
وأوضح كريم أن الذين تولّوا الحكم بعد انسحاب الصدر هم «أقلية الأقليّة»، ومع ذلك تسلّموا السلطة كما لم يحدث في أي انتخابات سابقة، مضيفًا أن هذا الوضع منح إيران تمثيلًا غير مسبوق في المشهد السياسي العراقي.
وأشار إلى أن هذه القوى الحاكمة «انفردت كليًا بالسلطة بكل معنى الكلمة»، وتمكنت من السيطرة على أجهزة الدولة، ولا سيما الأجهزة الأمنية والعسكرية ودوائر المال، التي قال إنها أصبحت أدوات للنفوذ والنهب.
محنة الكرسي!
اعتبر رئيس مؤسسة المدى للإعلام والثقافة والفنون أن رئيس الحكومة الحالية محمد شياع السوداني «استفاد من واقع سياسي مختلّ»، مؤكدًا أن منصب السلطة في العراق أصبح «موبوءًا»، بحيث يتعرّض حتى أكثر الناس نزاهة وأخلاقًا إلى «محنة» حين يجلسون عليه، مشيرًا إلى أنه رفض الترشح لرئاسة الجمهورية لرفضه أن يكون جزءًا من منظومة فاسدة.
وقال كريم إن من بين المستفيدين من الوضع السياسي الحالي رئيس الحكومة محمد شياع السوداني، موضحًا أن هذا التوصيف لا يستهدف شخصه بقدر ما يعكس واقعًا عامًّا تشترك فيه الطبقة السياسية العراقية بأكملها.
وبيّن أن «الكرسي في الظرف الراهن موبوء»، مشيرًا إلى أن أكثر الناس أخلاقية يمكن أن يتعرضوا إلى محنة حين يتولون موقع السلطة، وقال: «أنا أتحدث عن كل الكراسي، لأن البيئة الحاكمة ملوثة بالفساد والمحاصصة، ولا تسمح لأي شخص بأن يبقى نزيهًا بالكامل».
وعن رفضه الترشح لرئاسة الجمهورية، أكد كريم أنه رفض المنصب «بدون أدنى شك»، مضيفًا: «هل تقبل أن كل هذا التاريخ الذي أحمله، وما تعرّضت له، ينتهي إلى أن أجلس على كرسي وأتحول إلى لصّ؟».
وردًّا على سؤال حول ما إذا كان هذا الموقف يُعدّ هروبًا من المسؤولية، قال كريم إن الوضع القائم لا يسمح بالإصلاح من داخل السلطة، موضحًا أن «موازين القوى لا تتيح لأي موقع، حتى رئاسة الجمهورية، أن يمارس دوره بحرية أو تأثير».
وأشار إلى أن رئيس الجمهورية «لا حول له ولا قوة، ولا حتى القدرة على الكلام في بعض الأحيان»، مؤكّدًا أن القرار السياسي في العراق يُحسم في «مراكز القوى المسلحة ويد ولاة الأمر الحقيقيين». واضاف ساخرًا: «رئيس الجمهورية لا يستطيع أن يحلب بقرة!».
الولاء للخارج!
أوضح كريم أن من يسيطر على القرار في العراق ليست مؤسسات الدولة، بل «الميليشيات المسلّحة المعروفة جدًا»، مشيرًا إلى أن عددها لا يقلّ عن أربعين منظمة «مغالية في ولائها لغير العراق»، على حدّ تعبيره.
وقال إن هذه الميليشيات لا تُخفي انتماءها الخارجي، بل «تعلن ولاءها صراحة للجمهورية الإسلامية الإيرانية»، مضيفًا: «كما هو الحال في لبنان مع حزب الله، لكن في العراق هناك عدة ميليشيات، وكل منها تمتلك سلاحًا ونفوذًا، ما يجعل القرار موزّعًا خارج إطار الدولة».
ولدى سؤاله عمّا إذا كان القرار العراقي بيد السلاح خارج البلاد، أجاب كريم متسائلًا: «هل هناك مطّلع لا يعرف أن القرار يأتي من الخارج؟»، مضيفًا أن «قادة الجمهورية الإسلامية صرّحوا مرارًا بأنهم ولاة الأمر في العراق».
وبيّن كريم أنه لا يطعن بإيران، معتبرًا أن «لكل دولة مصالحها ونفوذها»، موضحًا أن الجمهورية الإسلامية «تسعى مثل غيرها إلى توسيع نفوذها في المناطق التي تراها ذات أهمية سياسية أو اقتصادية، وقد وجدت في العراق فرصة لذلك بفضل امتدادها المذهبي والديني».
وأضاف أن النفوذ الإيراني في العراق «لم يكن بمعزل عن تدخل الولايات المتحدة في العراق»، مشيرًا إلى أن ما حدث بعد عام 2003 لم يكن «تحريرًا للعراق» كما زُعم، بل تحوّل سريعًا إلى «احتلال»، نتجت عنه بنية سياسية هشّة سمحت بتغلغل النفوذين معًا.
الموقف الوطني
اجاب كريم على سؤال حول تراجع نفوذ إيران في العراق أن طهران لم تفقد تأثيرها كما يُروّج، وقال: «إيران، برغم تعرضها لضربات على منشآتها النووية وقياداتها، إلا أنها ما زالت فاعلة في المشهد الإقليمي».
وأضاف أن الصورة في العراق «واضحة جدًا»، موضحًا أنه لا يؤمن بإيجاد حلول داخلية عبر أدوات خارجية، وقال: «أنا أعتزّ بالوطنية العراقية، وإذا كان هناك تغيير حقيقي فيجب أن يتمّ بأدوات عراقية وطنية خالصة».
وبيّن كريم أن الخطأ التاريخي الذي ارتكبته المعارضة العراقية عام 2003 تمثّل في رهانها على الولايات المتحدة واعتمادها على ما وصفه بـ«الفبركة التي سُمّيت تحرير العراق»، معتبرًا أن هذه الخطوة أدّت إلى الخراب الذي يعيشه العراق اليوم.
وأضاف: «نحن نعيش في ظلّ دويلة لقيطة، وفي ظلّ قيادات افتقدت للحدّ الأدنى من القيم الأخلاقية، والدينية والمذهبية»، مشيرًا إلى أن تلك القيادات «لا علاقة لها لا بالإمام علي ولا بالحسين ولا بأبي ذر».
الانتخابات والتغيير
وقال كريم إن الحديث عن تغيير سياسي من خلال الانتخابات المقبلة هو «وهم كبير»، مؤكدًا أن العراق لن ينهض طالما أن الميليشيات المسلحة تهيمن على القرار السياسي والأمني. وأضاف: «لن تقوم قائمة للعراق مع وجود ميليشيات تفتخر بأنها ولائية، وبوجود حشد شعبي يعتبر نفسه قوة عقائدية للدفاع عن العقيدة وليس عن الوطن».
وأوضح أن هذه القوى مرتبطة بجهات خارجية «تقرر مصير العراق»، مشيرًا إلى أنه لا يمكن أن يحدث أي تغيير حقيقي في ظل هذا الواقع. وقال: «كن على يقين ولا تتوهّم، لن يجري أي تغيير ما دامت هذه الميليشيات موجودة وتتحكم في العراق».
وانتقد كريم طبيعة المشاركة في الانتخابات المقبلة، واصفًا إياها بأنها تعكس حالة «الابتذال السياسي»، وأضاف: «راجع الأسماء والمرشحين، هناك مرشحون لصوص، علنًا لصوص. أي مواطن في الشارع يسألك عنهم سيقول لك هذا لص».
وتابع قائلًا: «ومن الظواهر الغريبة الأخرى ترشح ما يُعرف بـ(الفاشينيستا)، ومع احترامي لهنّ، لكن هناك مرشحات لا أحد يعرف عنهنّ شيئًا إطلاقًا، لا في المجال السياسي ولا الاجتماعي، ومع ذلك يخضن الانتخابات»، معتبرًا أن هذه المظاهر تكشف هشاشة المعايير السياسية في العراق.
فساد غير مسبوق
وأكد كريم أن الفساد في العراق بلغ مستوى غير مسبوق، قائلاً: «نحن في العراق نفتخر بأننا ابتكرنا أنواعًا من الفساد لم تُشهد في أي مكان آخر. لدينا فساد علني، وفساد للتصدير».
وأضاف أن مظاهر الفساد أصبحت جزءًا من المشهد السياسي والإعلامي، وقال: «رؤساء الكتل والمرشحون يتحدثون في القنوات التلفزيونية عن أسعار المقاعد البرلمانية، وعن أن المقعد النيابي يُشترى بمليون دولار، بينما تصل ميزانية الحملة الانتخابية لبعض الكتل إلى أكثر من مئة مليون دولار».
وبيّن أن كثيرًا من السياسيين الذين ينفقون هذه المبالغ «لم يكونوا يملكون ثمن نعلٍ واحد»، في إشارة إلى حجم التحوّل المالي غير المشروع الذي شهده بعضهم، موضحًا أن التباهي بحجم الإنفاق أصبح «علامة تفاخر بين المرشحين والكتل».
وتابع كريم: «ومن قال إن القانون محترم؟ القانون لا يجيز مشاركة أي مسلح في الانتخابات، ومع ذلك تجد الميليشيات تجلس علنًا في البرلمان وتعلن أنها تمثل فصائل مسلحة كـبدر والعصائب والكتائب وغيرها»، مشيرًا إلى أن الإطار التنسيقي نفسه يعرّف بأنه «إطار للفصائل».
وانتقد كريم استمرار البرلمان رغم انسحاب أكبر كتلة سياسية (التيار الصدري)، قائلاً: «في أكثر الدول فسادًا، حين تنسحب الكتلة الأكبر، يُعتبر البرلمان فاقدًا للشرعية، لكنه في العراق لم يكتفِ بالاستمرار بل استبدل المنسحبين ببدلاء حصلوا على أصوات تثير الضحك».
وأضاف أن هؤلاء الذين استحوذوا على البرلمان والسلطة السياسية «اتخذوا قرارات تشريعية في غاية الخطورة»، مبينًا أنه «في أي بلد يحترم نفسه، كان يفترض على الأقل أن يُعتبر البرلمان مؤقتًا، مثل حكومة تصريف الأعمال، لكن ما جرى هو العكس تمامًا».
شعلة الانتفاضة لن تنطفئ
وقال كريم إن الشعب العراقي شعب مثقف وواعٍ سياسيًا، لكن تراكم الديكتاتوريات أضعف دوره في الحياة العامة. وأضاف: «العراقيون أثبتوا في أكثر من محطة تاريخية أنهم أصحاب مواقف وطنية شجاعة، كما في انتفاضة آذار، وانتفاضات 2011 و2019 التي شارك فيها مئات الآلاف، بل أكثر من مليون متظاهر في بغداد وحدها رفعوا شعار (نريد وطن) و(إيران برّا… أميركا برّا)، فقوبلوا بالرصاص».
وأشار إلى أن الإحصاءات المستقلة تؤكد سقوط نحو 1200 شهيد وأكثر من 25 ألف جريح ومعاق، بينما تقلّل السلطات السابقة من الأرقام وتذكر أن القتلى بين 120 و220 فقط. وأكد أن «هؤلاء قُتلوا بأسلحة الميليشيات المتحكمة اليوم في الدولة».
وأضاف كريم: «ماذا يُراد من الشعب العراقي أن يفعل أكثر؟»، داعيًا العراقيين إلى استعادة روح المآثر الوطنية الممتدة منذ العهد الملكي، وقال: «هذه الشعلة لم تنطفئ، لكنها تحت الرماد وتنتظر من يزيح عنها الأنقاض».
ورأى أن مشاركة العراقيين في الانتخابات تتراجع بسبب فقدان الثقة، موضحًا أن 80% من المكوّن الشيعي لم يشارك في الانتخابات السابقة، وأن النسبة المتوقعة هذه السنة ستكون «أقلّ من السابقة». وأضاف أن الأرقام الرسمية مضللة: «عدد من يحق لهم التصويت نحو 28 إلى 29 مليونًا، لكن المفوضية تعتمد فقط على من حصل على بطاقة ناخب، وحتى وفق ذلك لا تتجاوز المشاركة الفعلية 20%، وهناك من يقول إنها 18%، وربما أقل».
وتابع كريم أن الانتخابات المقبلة لن تغيّر شيئًا، لأن «الاقتراع في ظل الميليشيات المسلحة الإجرامية التي قتلت المتظاهرين وعبثت بأموال الدولة لا يمكن أن يمنح شرعية حقيقية».
المشهد الكردستاني
وفي ما يتعلق بالمشهد الكردي، قال كريم إن الفساد موجود هناك أيضًا، رغم محاولات الإصلاح التي أعلن عنها رئيس الحزب الديمقراطي الكردستاني مسعود بارزاني، وأضاف: «بارزاني أعلن مرارًا حملة على الفساد، وربما لم تتوقف، لكن لا يمكن أن نُوهم أنفسنا بأنه لا يوجد فساد أو تجاوز في الإقليم. الحال من بعضه».
وأردف كريم مشبّهًا الوضع العراقي بـ«الأواني المستطرقة»، قائلاً: «العراق كله مترابط، وما يجري في بغداد يؤثر في أربيل، وما يجري في أربيل ينعكس على بغداد. لا يمكن فصل الأوضاع السياسية والإدارية عن بعضها».
واضاف أن إقليم كردستان يمتلك واقعًا خاصًا ضمن العراق الفيدرالي، سواء في إدارة شؤونه أو في جذب الاستثمارات. وقال: «كردستان كانت في مرحلة من المراحل مركزًا لاستقطاب الاستثمار، في وقت كان العراق يمرّ بأزمات اقتصادية خانقة». وأضاف أن هذه التجربة كان يمكن أن تكون نموذجًا وطنيًا ناجحًا، «تحوّل العراق إلى منتزه حقيقي للعراقيين»، لولا أن الطبقة السياسية «قرّبت كل إمكانية ومنعت ترسيخ الفيدرالية، حتى على قاعدة الدستور المختلّ».
وتابع قائلًا: «شهادتي مجروحة في هذا الموضوع، لأن البعض يريد مني أن أؤكد وطنيتي بشتم الأكراد أو قيادتهم، وهذا منطق مريض. أنا وطني، لكن ليس عبر الشتم». وأشار إلى أن التجربة الكردية قدّمت مشهدًا مغايرًا لبقية البلاد، وأن الأكراد في إقليم كردستان «أحرجوا السلطة في بغداد» بتقدمهم النسبي في الإدارة والخدمات.
وفي مقارنة بين الفساد في بغداد ونظيره في الإقليم، قال كريم إن الفساد في العراق «يشمل الصاية والسرماية»—أي المال والسلطة معًا—ويقوم على نهب الأموال المخصصة للمشاريع العامة، موضحًا أن الشوارع في بعض المدن «يُعاد تبليطها مرتين أو ثلاثًا في السنة لأن المشروع يُباع من مقاول إلى آخر».
وروى كريم واقعة من تجربته حين كان كبير المستشارين، قائلاً: «جاءني أحدهم وقال إنه اشترى مشروعًا لكنه وجد أنه لا يكفي شيئًا. وعندما سألنا البائع كيف نُفذ المشروع قال ببساطة: رشّوا عليه نفطًا أسود وخلصنا».
أما في كردستان، فأوضح كريم أن الفساد هناك «لا يمسّ رأس المال الإنتاجي»، وقال: «حينما يُذكر الفساد في كردستان، فهو لا يشمل رأس المال أو أصول المشاريع، وربما يكون في شكل مشاركة في الأرباح أو مصالح متبادلة، لكنها لا تُشبه الفساد الذي يعمّ العراق».
التدخل الخارجي مرفوض
قال كريم تعليقًا على التحذير الأميركي الأخير من استهداف القوات الأميركية في العراق، إن الفصائل المسلحة «لا يمكن أن تبلغ من الحماقة في الظرف الراهن حدّ مواجهة الولايات المتحدة عسكريًا»، مشيرًا إلى أن هذه الفصائل تدرك حجم التوازنات والقوى.
وأوضح أن الخطورة لا تكمن في تلك المواجهة المحتملة، بل في تفاقم فقدان الثقة لدى المواطنين، قائلاً: «للأسف، كثير من العراقيين اليوم يراهنون على تدخل خارجي لإنقاذ الوضع، وهذا وهم خطير. تجربة 2003 يجب أن تُستحضر دائمًا لأنها أثبتت أن أي تدخل خارجي لا يعيد للعراقيين إرادتهم».
وأضاف أن الحلّ يكمن في توافق وطني داخلي، مشيرًا إلى أن العقلاء في الطبقة السياسية «يجب أن يدركوا أن الإقصاء ليس حلًا»، وأن لكل التيارات السياسية مكانًا في الحياة العامة، «لكن خارج هذا الثالوث سيّئ الصيت: الطائفية، الفساد، والميليشيات».
وبيّن كريم أن القوى المتحكمة اليوم «تخيف المجتمع الشيعي بخطر بعثي مزعوم»، مضيفًا أن هذا الخطاب لم يعد منطقيًا: «أبرز الشخصيات الموجودة اليوم في مراكز القرار هم بعثيون سابقون. صدام حسين في قبره مرتاح جدًا، لأن الذين يرفعون شعار مواجهة البعثيين هم أنفسهم من أعادوا إنتاجه بأسوأ صوره».
وأشار إلى أن الخوف المصطنع من «العودة البعثية» يُستخدم لإبقاء الميليشيات ممسكة بالسلطة، مؤكدًا أن الشيعة كمكوّن اجتماعي واسع «لا يُختزلون بهؤلاء الذين يحتكرون الحديث باسمهم».
واستذكر كريم مرحلة سابقة حين حاول مع أطراف سياسية داخل العراق وخارجه تغيير رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي، قائلاً: «كنت أحمل هذا الملف وأتنقّل بين سوريا وإيران وكردستان وبغداد، وحين قلت إن القيادات الشيعية كلها مشاركة في الحوار، قيل لي إن الشيعة يجب أن يقرّوا، وعندما أوضحت أن التحالف الشيعي يضم الصدر وغيره، أجابني المسؤول الإيراني: التحالف الشيعي إذا بقي فيه واحد فقط، فهو الذي يقرّر».
وأضاف كريم أنه سأل حينها بوضوح: «هل تقصد إيران؟»، فأجابه المصدر: «فكّر كما تريد». وعلّق قائلًا: «هذا هو المتجسّد اليوم في الإطار التنسيقي. القرار النهائي لا يُتخذ داخل العراق، بل يُحدَّد خارجه».
وبين بالقول إن القوة الشعبية الأكبر في الشارع الشيعي «ما زالت بيد السيد مقتدى الصدر، سواء أحبّ البعض ذلك أم لا»، معتبرًا أن «الإطار التنسيقي» يمثل «تحالف السلطة لا تحالف المجتمع».
وقال إن بعض التيارات والأحزاب والمنظمات العراقية باتت تراهن على تدخل خارجي جديد «بسبب حالة اليأس وانعدام الثقة بالداخل»، محذرًا من تكرار تجربة عام 2003 التي «سلبت العراقيين إرادتهم الوطنية وأنتجت النظام الفاسد الحالي».
موقف المرجعية
أشار فخري كريم إلى أن المرجعية الدينية العليا لم تصدر هذه المرة فتوى أو بيانًا يحث على المشاركة في الانتخابات أو يقاطعها، موضحًا أن «المرجعية تركت القرار للعراقيين، لأنها تدرك تمامًا أن المزاج الشعبي العام هو رفض هذه الطبقة السياسية».
وأضاف أن أحد ممثلي المرجعية في البصرة عبّر عن موقف شخصي ضد المشاركة في الانتخابات أو انتخاب الوجوه نفسها، «لكن جرى توضيح له من النجف بأنه غير مخوّل بالتحدث باسم المرجعية، فتراجع عن تصريحه». وأوضح أن الرسائل الصادرة من المرجعية، سواء الشفوية أو المسربة، «تؤكد أن الموقف هو التخيير: الناس هم من يقررون، لا المرجعية».
وتابع كريم أن المرجعية، ممثلة بالسيد السيستاني، «لا تغطي هذا الفساد ولا الأداء السياسي السيئ، خصوصًا في أوساط القوى الشيعية»، مؤكدًا أن السيستاني «أكثر من تحدث بوضوح عن فساد الطبقة الحاكمة الشيعية، وعن خراب الدولة، ونقض السيادة، وارتكاب التجاوزات، وذلك في خطب الجمعة وبياناته المعروفة».
وكشف كريم أنه التقى السيد السيستاني أكثر من مرة، وأن المرجع الأعلى كان واضحًا في رفضه للمحاصصة الطائفية، قائلاً: «حين تحدثنا عن الفساد في وزارة التجارة، قال لي السيستاني بالحرف: هاتوا وزيرًا مسيحيا*، بل واقترح إعادة وزير التجارة في عهد صدام حسين لأنه كان جيدًا جدًا في إدارة البطاقة التموينية».
وأشار كريم إلى أن فتوى السيستاني المعروفة بـ«الفتوى الكفائية» لم تتحدث عن تشكيل ميليشيات، بل عن «متطوعين» للدفاع عن العراق ضد تنظيم داعش، موضحًا أن المرجعية «لم تستخدم يومًا مصطلح الحشد الشعبي في نصوصها الأولى، بل جرى تسييس الفتوى وتحويلها لاحقًا إلى غطاء شرعي لتشكيلات مسلحة مرتبطة بأجندات سياسية».
خطر داعش
أوضح كريم أن خطر تنظيم داعش يتجدد «حينما يريد أحد الأطراف دفع الأمور باتجاه معين»، مضيفًا أن هذه القضية «جزء من لعبة الأمم» التي تحددها المصالح الدولية، مستشهدًا بالكتاب الشهير الذي يحمل الاسم نفسه. وقال: «اليوم تتسرّب معلومات خطيرة عن كيفية إقناع بشار الأسد بفتح مقرات لداعش في سوريا، وعن وجود عائلات تابعة للتنظيم في إيران وسوريا. كل ذلك يعكس أن هذا الخطر يتحرك وفق الأجندات السياسية، لا بمعزل عنها».
وأشار إلى أن استمرار التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة في العراق «يتم تحت عنوان محاربة داعش والتطرف»، لكنه في الواقع «يعكس شبكة مصالح سياسية وعسكرية متشابكة». وأضاف: «عدد أفراد التحالف لا يتجاوز بضع مئات، في الوقت الحالي, بينما كان حجم القوات الاجنبية سابقاً أكثر من 170 الف جندي, ومع ذلك لم تستطع الولايات المتحدة في حينها التأثير في اختيار رئيس الجمهورية أو تغيير مرشح بعينه، رغم محاولاتها».
وبيّن كريم أن واشنطن تتعامل مع الملف الإيراني بمرونة تكتيكية، قائلاً: «في المراحل السابقة، كانت الولايات المتحدة تراقب اتجاهات السياسة الإيرانية وتحاول التوافق معها بما تسميه القوة الناعمة. أما الآن، فالصورة أكثر التباسًا، لكنها لا تعني أن المواجهة حتمية».
وأضاف أن إيران «دولة كبيرة ولديها إمكانيات»، وأن الرهان على إسقاط نظامها «تمنٍّ خاسر»، موضحًا: «نحن لا نريد لإيران أن تتصدع أو تضعف. نحن مع الشعب الإيراني، ولسنا مع خيار الحرب الأميركية أو الإسرائيلية ضدها».
وأكد كريم أن العراق يجب أن يتعامل مع إيران ومع جميع جيرانه على أساس «الاحترام المتبادل للسيادة والاستقلال والمصالح المشتركة»، مضيفًا أن الموقع الجغرافي للعراق يجعله «قادرًا على أن يكون أفضل صديق لإيران، لا ساحة صراع لمصالحها».
وعن طبيعة التفاهم الأميركي–الإيراني في العراق، قال كريم إن هذا «التقاطع المصلحي» لا يزال قائمًا رغم بعض الضربات التي تتعرض لها طهران في المنطقة. واستشهد بتصريح لأحد القادة الصينيين قائلاً: «قال ذات مرة: نحن لدينا حزب حاكم لا يتغير لكن سياساتنا تتغير، وأنتم لديكم العكس—رؤساؤكم يتغيرون، لكن سياساتكم واحدة تعبر عن مصالح الولايات المتحدة».
وختم كريم حديثه بالقول إن على العراق أن «يعيد بناء سياسته الخارجية على أسس عقلانية تحترم الجوار ومصالح العالم، لكن تنطلق أولًا من مصلحة العراق العليا، وإرادته المستقلة، ومستقبله الوطني».
الموقف من احداث سوريا
أوضح كريم أن ما يُقال عن أن المشهد السوري يمثل تهديدًا للعراق «هو مبالغة متعمدة لتخويف الشارع»، قائلاً: «سوريا اليوم منهكة، فقد دمّرت إسرائيل بنيتها العسكرية، وتعرضت لحصار خانق، ولم يبقَ فيها ما يشكل خطرًا لا على العراق ولا حتى على لبنان».
وأضاف أن الحديث عن خطر قادم من سوريا، سواء من جهة الأكراد أو من الدروز أو من أي فصيل آخر، «مجرد ذريعة تُستخدم لترهيب المكوّن الشيعي في العراق»، مشيرًا إلى أن القوى الحاكمة «تلوّح دائمًا بأعداء خارجيين لتبرير فشلها».
وقال كريم إن الخطر الحقيقي «ينبع من الداخل، من هذه الطبقة الحاكمة الفاسدة التي دمّرت إمكانيات البلد ومنعته من التعافي»، مؤكدًا أن المشكلة ليست في الخارج بل في «الطغمة التي استحوذت على السلطة والمال».
وأشار إلى أن التجربة السورية تمثل درسًا مهمًا لكل القوى الوطنية في العالم العربي، موضحًا أن الصراع في سوريا «كشف طبيعة العلاقات الدولية القائمة على المصالح لا المبادئ»، وأضاف: «الدول الكبرى لا تمتلك تحالفات ثابتة ولا تحترم القيم المعلنة. هي فقط تنظر أين يمكن أن تُؤكل الكتف».
ودعا كريم السوريين إلى الاعتماد على إرادتهم الوطنية لبناء المستقبل، مشيرًا إلى أن الحل الحقيقي في سوريا «لا يكون إلا عبر حوار وطني شامل على طاولة مستديرة تضمّ جميع المكونات والقوى، بما في ذلك شخصيات من النظام السابق»، مؤكدًا أن هذا هو الطريق الوحيد لاستعادة عافية الدولة السورية.
وفي معرض رده على سؤال حول تجربته الشخصية في الحكم، رفض كريم وصفه بـ«كبير المستشارين»، موضحًا أنه لم يتقاضَ أي راتب أو مكافأة أو قطعة أرض خلال فترة عمله مع رئاسة الجمهورية. وقال: «اعتبرت هذه المهمة هدية إلى شعبي، وليست وظيفة تُدفع عنها أجور». وأكد أنه رفض لقب «كبير المستشارين» كما رفض سابقًا ترشيحه لرئاسة الجمهورية.
وفي ختام الحوار، وجه كريم تحية إلى منصة «أساس ميديا»، مشددًا على أهمية الحوار الحرّ في كشف الحقائق ومواجهة الفساد، قائلاً: «رسالتي الوحيدة كانت وستبقى خدمة وطني بلا مقابل».
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ورد في الحديث المتلفز للاستاذ فخري كريم سهواً، قوله: «حين تحدثنا عن الفساد في وزارة التجارة، قال لي السيستاني بالحرف: هاتوا وزيرًا سنياً»، والصحيح هو ما ورد في نص المقابلة ( وزيراً مسيحياً).










