يتجه العراق بخطوات متسارعة نحو التحول الرقمي عبر إلزام المؤسسات والمتاجر بتفعيل أدوات الدفع الإلكتروني، في مسعى حكومي يرمي إلى محاربة الفساد والبيروقراطية وتحقيق شفافية مالية شاملة ضمن إصلاح اقتصادي يعد من أبرز التحولات في تاريخ البلاد الحديث.
يخوض العراق اليوم معركة كبرى لإعادة تعريف علاقته بالمال والإدارة، إذ لم يعد التحول الرقمي ترفًا فكريًا بل أصبح سلاحًا إستراتيجيًا لمواجهة الفساد المستشري والبيروقراطية المعرقلة. فحملة الحكومة العراقية لتفعيل الدفع الإلكتروني وأتمتة الخدمات تمثل ثورة هادئة تهدف إلى بناء اقتصاد أكثر شفافية وعدالة وكفاءة.
على مدى عقود طويلة، هيمن التعامل النقدي على مفاصل الاقتصاد العراقي، ما خلق بيئة مثالية لنمو الفساد والتهرب الضريبي وغسل الأموال. وإدراكًا لذلك، اتخذت الحكومة قرارات وُصفت بالجريئة بقيادة البنك المركزي، من بينها إلزام الجهات الحكومية والقطاع الخاص، بما في ذلك محطات الوقود والمتاجر الكبرى والمطاعم والصيدليات، بتوفير أجهزة الدفع الإلكتروني (POS).
لا تقتصر أهداف هذا القرار على مواكبة التطور المالي العالمي، بل تتجاوز ذلك إلى تعزيز الشفافية عبر تسجيل كل عملية دفع إلكتروني، ما يجعل حركة الأموال قابلة للتدقيق والمراقبة، ويضيّق الخناق على التلاعب المالي. كما يسهم في إدماج الأنشطة التجارية ضمن النظام المالي الرسمي، بما يضمن خضوعها للضرائب ويزيد من إيرادات الدولة.
إلى جانب ذلك، تعزز هذه الخطوة الشمول المالي من خلال تشجيع المواطنين على فتح حسابات مصرفية واستخدام البطاقات الإلكترونية، ما يدمج شرائح واسعة من المجتمع في النظام المصرفي الرسمي ويمنحها وصولًا أفضل إلى الخدمات المالية.
وفي موازاة هذه الخطوات، تمضي الحكومة في مشروع أتمتة الخدمات الحكومية الذي يشكل ضربة قاصمة للبيروقراطية. فقد أتاحت منصات مثل بوابة «أور» الإلكترونية للمواطنين والشركات إنجاز معاملاتهم عن بُعد، بدءًا من تسجيل الشركات وصولًا إلى دفع الفواتير والحصول على الوثائق الرسمية.
تسهم الأتمتة في الحد من الفساد عبر تقليل الاحتكاك المباشر بين المواطن والموظف الحكومي، وتوحيد الإجراءات والرسوم، وخلق مسار رقمي قابل للتدقيق يمكن للجهات الرقابية مراجعته. كما أن تطبيق نظام «الأسيكودا» الجمركي العالمي ساعد في توحيد الرسوم وتقليل التقديرات الشخصية للموظفين، مما رفع إيرادات الدولة وجعل بيئة الاستيراد والتصدير أكثر شفافية وجاذبية للاستثمار.
ورغم ما يواجهه هذا التحول من تحديات، مثل مقاومة التغيير من قبل المستفيدين من الوضع القائم، وضعف البنية التحتية للاتصالات، والحاجة إلى رفع الثقافة الرقمية لدى المواطنين، فإن الإرادة السياسية الواضحة والمضي بالإصلاحات يبعثان على التفاؤل.
إن الانتقال نحو الاقتصاد الرقمي في العراق لا يُعد مشروعًا تقنيًا فحسب، بل رؤية شاملة لبناء دولة حديثة تقوم على الشفافية والكفاءة وخدمة المواطن، في معركة تبدو صعبة لكنها تستحق أن تُخاض حتى نهايتها.










