الرياض/ علي الياسري
شهدت العاصمة السعودية الرياض فعاليات مؤتمر النقد السينمائي الدولي الثالث الذي اقامته هيئة الافلام للفترة من 7-10 نوفمبر 2025 تحت شعار "السينما.. فن المكان". المؤتمر الذي انطلقت انشطته الأشهر الماضية في بعض مدن المملكة حيث ابتدأ بملتقى ابها السينمائي بمنطقة عسير شهر اغسطس من هذه السنة، ثم انتقل الى القطيف في شهر اكتوبر. ناقشت الفعاليات موضوعة المدن في السينما مع التركيز على هوية المنطقة من خلال حوارات معرفية وثقافية تستمد مواضيعها من صلة السينما بالعمارة ورؤية النقد السينمائي لهذه الوشائج باستعراض التجارب الفكرية والجمالية المُستَكشِفة لإلهامات المكان في الصورة السينمائية.
العلاقة بين المكان والسينما عاطفية بامتياز تتحرك وسط طبقات الذاكرة مولدة صورة النسيج الشعوري الممتد من روح المكان حتى وهج الذكريات المُختَزنة ضمن ثنايا الامكنة، فهي مهد الاحلام ونبض الأرواح ومستودع القصص واللحظات النَديّة المتقلبة على تباين الاحاسيس. كل ذلك يدفع النقد السينمائي الى دراسة واستجلاء الفعل البصري للمكان ولغة السرد الذي تحوله اليه السينما فتفتح آفاقه المخبؤة تحت طيات الرؤية الفنية سعيًا نحو التأمل والادراك ثم الوقوف على مشتركات العلاقة بين الموجودات في بيئة المكان.
كان برنامج فعاليات المؤتمر حافلًا ابتداءً من الافتتاح الذي تضمن جلسة حوارية مع ماركو بيلّوكيو احد علامات الاخراج في السينما الايطالية منذ ستينيات القرن الماضي. ففي سياق حديثه عن تجربته السينمائية اكد ان الناقد يشكّل مرآة أخرى للمخرج حيث ذكر "في مسيرتي المهنية تعلّمت أن أقدّر النقاد الذين لا يكتفون بالتقييم، بل يفتحون أمامي نوافذ جديدة على ما صنعتُه، ويضيفون إلى رؤيتي تفاصيل لم أكن أراها كمخرج، فوجودهم يوسّع الأفق ويعمّق الفهم."
ثم تلاه جلسة بعنوان (الارشيف.. حيث تنتهي الافلام وتولد من جديد) للمؤرخة السينمائية المجرية يانكا باركوتشي التي ترى ان استعادة الافلام وترميمها عملية بالغة الاهمية للفن السابع حيث تتبع تاريخ الكنوز السينمائية المنسية، وتعيد بناء الروابط المفقودة في تاريخ السينما.
برنامج مؤتمر النقد السينمائي الدولي اهتم طيلة أيامه الثلاثة بالجلسات الحوارية والعروض التقديمية وورش العمل حيث شارك في نقاشاته العديد من المتحدثين والخبراء السينمائيين ونخبة من النقاد العالميين سعوا لاستكشاف معنى المكان في السينما باعتباره الإطار البصري لفضاء الفيلم وسرديته كانعكاس للذاكرة والهوية الانسانية وطبيعة المجتمع.
أنشطة أيام النقد
في يومه الثاني انعقدت ضمن فعالياته ورشة عمل بعنوان (سرد المكان واستحضار الذاكرة: الفضاء السينمائي في السينما الايطالية) للفيلسوف والقيّم الفني نيكولا ديفيد، وأيضا عرض تقديمي للدكتور باولو برتغال استعرض فيه (فن المكان في السينما: المهرجانات والذاكرة وإعادة التشكيل في العصر الرقمي). وكذلك قدم الكازاخستاني الدكتور باوبك نوجربك عرض بعنوان (فضاء آرتستريم: المكان والثقافة والهوية السينمائية في السينما الكازاخية المعاصرة. وركزت صانعة افلام الرسوم المتحركة السعودية ولاء سندي في عرضها التقديمي على موضوعة (الانميشين وبناء العوالم: عندما يصبح المكان خيالًا مطلقًا). وناقش الناقد السينمائي السعودي فهد الاسطاء ضمن ورشة العمل التي قدمها مبادئ النقد السينمائي. أما في فقرة ما وراء النقد جاءت الباحثة المكسيكية د. ادريانا فرنانديز بدراسة حملت اسم مثير (إعادة تصور مدينة مكسيكو سيتي: التحولات الحضرية على الشاشة من العصر الذهبي الى السينما العالمية) استعرضت فيها تطور تصوير مدينة مكسيكو سيتي على يد المخرجين المحليين والأجانب وهو ما يعطينا بالمحصلة كيف اعادت المدينة اختراع نفسها باستمرار عبر عين السينما لتغدو مساحة سردية متعددة الأبعاد. فيما اختتم اليوم بجلسة حوار بعنوان (تأملات في السينما المعاصرة) مع الناقد والصحفي السينمائي والمدير الفني السابق لمهرجان لوكارنو السينمائي الدولي ومهرجان برلين السينمائي الدولي وحاليًا مدير المتحف الوطني للسينما في تورينو كارلو شاتريان اسهب فيها بحديث عن تحولات السينما المعاصرة، وعلاقة المخرجين بعالمهم وبالجمهور، ودور العمل السينمائي والنقدي في إعادة تعريف موقع السينما اليوم. ثم تلاه عرض لفيلم (اخبار من الوطن) للمخرجة شانتل أكرمان.
تضمن جدول أعمال اليوم الثالث والأخير من المؤتمر جلسة نقاشية حول موضوعة (الصحراء في السينما العربية) استعرض فيها المتحدثين صورة الصحراء في الافلام العربية وتوظيفها كأحد ابطال الحكاية وتأثيرات التصور الغربي من ناحية كونها فضاء خيالي اسطوري يتحرك بين الشاعرية والدراما. تلاها عدة عروض تقديمية اولها بحث (خريطة الذاكرة: أطلس سينمائي لتبليسي الستينيات) للناقدة الجورجية نيني شفيليدز استخدمت فيه الافلام السينمائية الجورجية السوفيتية في تلك الحقبة لرسم صورة المدينة/المكان وهوية الخصوصية الوطنية. وثاني العروض للناقدة الايطالية كيارا سبانيولي غاباردي بعنوان (ظاهرة السينما في ميلانو) تحدثت فيه عن الارتباط التاريخي بين مدينة ميلانو والعديد من الافلام وصناعها وحضورها التاريخي في السياق السردي حيث شرحت من خلال نماذج فيلمية دور المدينة في البناء الدرامي والتأثير الحضاري على الحكاية وشخصياتها بدءً من فيلم المخرج الكبير ابن ميلانو لوكينو فيسكونتي (روكو وإخوته) وانتهاءً بفيلم المخرج الامريكي ريدلي سكوت (بيت غوتشي). وكان ثالث العروض التقديمية دراسة (المكان كذاكرة بصرية: كيف تتحول الجغرافيا الى شخصية في الفيلم) للكاتب والباحث السعودي علي المجنوني تحرك فيه بين ثنايا المكان مدياته المؤطرة ضمن الذاكرة البصرية وكيف يلعب دوره كبطل في فضاء الحكاية.
كان عنوان (القوة السردية للاماكن في سينما برناردو برتولوتشي) المؤسس لدراسة د. ايفا بيدرو سانز التي تناولت فيها دور مواقع التصوير ليس فقط من كونها فضاء بصري لعناصر سردية بل للحالات النفسية والوجودية حيث تكشف افلامه كيف تصبح البيئات المغلقة والفضاءات الشاسعة والهندسة المعمارية ادوات للتعبير عن العزلة. كان ختام المؤتمر ماستر كلاس مميز (جلسة نقدية في عقل ريتشارد بينا) استاذ دراسات السينما والاعلام في جامعة كولومبيا وهو المدير السابق لمركز لينكولن السينمائي ومدير مهرجان نيويورك السينمائي للفترة بين (1988-2012).
ملاحظات ومقترحات
رغم وجود العديد من المبادرات لطبع الكتب المتعلقة بالثقافة السينمائية وأبرزها مبادرة (سينماء) لهيئة الافلام والتي هدفها اثراء الساحة السينمائية السعودية والعربية بالمواد المعرفية النقدية الا ان المؤتمر لم يشهد أي معرض كتاب مُصاحب يتيح الفرصة للضيوف والجمهور الحاضر الاطلاع على اخر المطبوعات واقتناءها.
في ذات السياق كان من المهم وضع البحوث التي شاركت في المؤتمر ضمن دفتي كتاب يصدر بالتزامن مع انطلاق فعالياته ويتيح للمتابع السينمائي الاستفادة مما ورد في هذه الدراسات القيّمة.
كان هناك تركيز كبير على الجانب النظري في فقرات المؤتمر حيث شهدنا عرض لفيلم واحد بدى مهمًا ان يتبعه نقاش يتمعن بأفكاره ورؤاه وفق اطلالة نقدية يقدمها ناقد او اكثر يتشاركون الحوار التفاعلي حوله مع الجمهور.
يحتاج المؤتمر الى فقرة ثابتة وموسعة باختياراتها حول رؤى عملية بنماذج مباشرة على الشاشة يعمل فيها الناقد المتحدث على تحليل الخطاب المشهدي حيث يتم اختيار مشهد معين من فيلم مهم وله اثره السينمائي وعرضه على الشاشة الكبيرة ثم التعمق في استبيان لغة المشهد البصرية ورؤيته الفنية وتأثيرها على المسار السردي للفيلم ككل ومساهمة المعمار وتأثير المكان كجزء اصيل من البناء الدرامي ضمن اطار اللقطة السينمائية دون نسيان دور حجم اللقطة وزاوية الكاميرا في استنطاق الجانب الشعوري ومراكمة الفعل العاطفي ببنية المشهد. من المهم ايضا كمقترح ان يتيح المؤتمر فرصة في كل دورة سنوية منه للتعريف بمهنة من مهن صناعة السينما غير المرئية كثيرًا ولا يتم التركيز عليها وغير معروف دورها بشكل بارز للجمهور خصوصًا، مثل المدير الفني او مصمم الانتاج او مدير الاضاءة او مصمم الازياء وغيرها، وهي مهن اكثر من يلتقط تأثيرها على مشهد الفيلم هو الناقد الواعي بحكم عينه الخبيرة بمدى تأثير عناصر فريق صناعة الفيلم السينمائي.
ان مؤتمر النقد السينمائي في السعودية منصة ثقافية فريدة عالميًا نجحت هيئة الافلام في تحقيقها حيث يجتمع تحت خيمته كل عام نخبة مجتمع النقد السينمائي الدولي بما يتيح تقريب النقد اكثر الى ذائقة عموم الجمهور وزيادة الوعي بطبقات الفيلم السينمائي وتبادل الحوارات بين النقاد بما يثري تجاربهم وينعكس على المُتلَقين لكتاباتهم، لذا بات مهمًا تأزيره بالتطور المستمر لفقراته وفعالياته، فوجوده اصبح عامل مهم في نماء الثقافة السينمائية.
حالة سينمائية فريدة بين التجربة والملاحظة والطموح
مؤتمر النقد السينمائي الدولي الثالث/2025

نشر في: 13 نوفمبر, 2025: 12:01 ص









