قيس قاسم
ثلاثة وثائقيات عرضت في الدورة الثامنة لمهرجان الجونة السينمائي الدولي، تميزت كلها بجمال اشتغالاتها وبحثها العميق في أحوال أفراد وجماعات وأمكنة. من بين أكثرها قسوة «ضع روحك على يدك وامش» لنقله واقع ما يعيشه الفلسطينيون في مدينة غزة المعرضة للدمار والخراب.
عنوان وثائقي المخرجة الإيرانية سبيده فارسي «ضع روحك على يدك وامش» مأخوذ من جملة قالتها لها الشابة الفلسطينية فاطمة حسونه، أثناء مكالمة معها عبر الهاتف المحمول، جرت أثناء المرحلة الأولى من الحرب في غزة، واستمرت بعدها لأشهر تتحدث معها وتصور لها تفاصيل الحياة في القطاع وما يتعرض له أهله من موت ودمار. حصيلة المحادثات والتسجيلات الحيّة والصور الفوتوغرافية التي تلتقطها بنفسها الشابة فاطمة (24 سنة) وترسلها عبر الإنترنيت إلى المخرجة في الخارج هي؛ فيلم وثائقي موجع، صادق يركن جماليات الاشتغال السينمائي جانباً ويأخذ بدلاً منه مجبراً خامات بصرية مصورة بعدسة هاتف محمول توثق خراباً وموتاً لا يتوقفان لحظة واحدة. منها تأتي الأحزان إلى الوثائقي، وتتسرب إلى مُشاهِده كلما طال حديث صانعته مع فاطمة، وكلما مر زمن القتل أكثر. يأتي الوجع قاسياً من ابتسامتها الدائمة وعفويتها، من أملها المضي في عيش حياتها البسيطة بين أهلها وناسها. نزوحها من مكان إلى آخر هرباً من الموت، يلازمه إصرار على مواصلة لا تدعي بطولتها. أجمل ما في فاطمة أنها تحكي (بالإنكليزية البسيطة) كل ما يخطر على بالها. لا تُجمل مشهداً ولا حدثاً هذا يمنح الوثائقي فيوض من المشاعر المتدفقة، الواصفة لما يجري من دمار وحرص على توثيق تفاصيله البشعة بمسؤولية تُحَمل نفسها بها، فلا أحد يصدق أن شابة في مقتبل العمر تصبر على الحاصل حولها وتأمل في المرور عليه ومعاملته بوعي كجزء من تاريخ يطوى. قبول الفيلم في مهرجان كانّ السينمائي يمنح لها فرصة الحضور مع فريق العمل لكن الحصار يمنعها، وبعد عرضه لن تستمر طويلاً في التواصل مع مخرجته لأن الموت يسبقها إليه.
«كابول بين الصلوات»
في توظيف بارع لقدرة الوثائقي على التعامل بحيادية مع شخصيات إشكالية، عبر ترك صانعه مسافة بينه وبينها، وبتجرد من موقف مسبق منها يترك للمُشاهِد فرصة التعرف عليها والاحاطة بالظروف الاجتماعية والمحددات الأخلاقية التي تربى عليها، يقترح المخرج الإيراني الهولندي أبوزار أميني رسم بورتريه سينمائي لساميم (23 سنة) الجندي في صفوف طالبان أفغانستان، الكلي الإيمان بأفكارها وقيّمها الأخلاقية. يترك أميني لكاميرته الوقت الكافي لملازمته في قريته البعيدة وفي شوارع كابول حيث يتولى مع بقية رفاقه في وحدة التفتيش مهمة الحفاظ على أمن المدينة من الأعداء. مثل بقية جنود طالبان هناك دوماً في ذهنه أعداء «كفار» ينبغي محاربتهم والتضحية بالنفس في سبيل دحرهم. يغذي نفس الفكرة لأخويه الأصغرين ويحرص على جمعها بالتعليم الديني عند أخيه المراهق رافي. يعلمهما كيفية استخدام السلاح والتهيئة لنيل الشهادة. نفس الشخص تراه تواقاً لمساعدة والده في الحقل، واستعادة انكليزيته التي تعلمها في الجامعة أثناء فترات استراحته. يشكو هجر زوجته له ويسأل عن صحة التعامل معها. في صورته الثانية يبدو ساميم شخصاً عادياً متأثراً بالبيئة الدينية المحافظة التي نشأ وسطها. أخوه المراهق مثله يتشبث بالنصوص القرآنية ولا يعرف معانيها الحقيقية، يلعب مع الصبيان ويندهش لجمال وروعة عمران المعابد البوذية التي هدمها طالبان. لا يحكم «كابول بين الصلوات» على أبطاله، أسئلة صانعه لهم تُجلي خواء داخلياً عندهم لا تسده مظاهر دينية يتمسكون بها. تُحيل المصاحبة الطويلة إلى إعادة النظر في تكوين ساميم والتعامل معه ككائن شكل وعيه الوسط الاجتماعي والقبائلي الذي ترعرع فيه، وحَوَله إلى شخص متشدد، تشده رغبة داخلية لعيش حياة سوية يعاندها بالمضي بما صار عليه!
«الساهرون»
بإبقاء كاميرتها داخل مقبرة المهاجرين في بروكسل، لتوثق ما يحصل فيها من تواصل روحاني بين زوار قبورها وبين مَن يُدفن فيها من موتاهم، يُحيّل وثائقي كريمة سعيدي إلى منجز تأملي في فكرة الموت بوصفه جزءاً من دورة الحياة الأزلية. تُسجيل كاميرتها من قرب مشهد المقبرة، التي اختار مهاجرون من مختلف الديانات والأعراق أن تكون مكاناً جامعاً لهم في رحلتهم إلى عالم الأبدية، التقاط عدساتها لتفاصيل زيارات أهلهم وأقاربهم لقبورهم تشي بتشابك حيواتهم بهم رغم الغياب. تُسجل صانعته حوارات الزوار مع موتاهم في قبورهم، وبوحهم فيها صراحة عن مشاعرهم وهمومهم. يأتون إليهم رغبة بتواصل لا يردون له انقطاع. تكرار مَشاهِد تنظيف القبور والعناية بها يؤكدها. شواهد القبور تُذكر بأسمائهم وتواريخها يؤشر إلى زمن عاشوه سوية. يثير الموت الحزن في النفوس، آلات حفر القبور العملاقة تزيد منه، لكن الزمن كفيل بتخفيفها، هذا يجعل للزيارات طعم مختلف، يختلط فيها الفرح بالحزن، وأحياناً تغدو مجازاً لصداقات جديدة. يوزع الزوار لبعضهم الحلوى تكريماً لموتاهم، يندفعون بإحساس أن الجميع هنا يتقاسمون نفس المكان برضا وسلام، لأنهم قادرون فيه العبور فوق خلافات ربما كانت في الماضي تفرق بينهم. هنا لا فرق بين قبر مسلم أو مسيحي أو يهودي. هكذا تضحى مقبرة المهاجرين في بروكسل ملتقى ل»موائمة» مطلوبة بين إثنيات وديانات وطوائف. الجمال يأتي إلى الوثائقي من فكرته، بها تعيد صانعته المغربية قراءة مشهد مقبرة المهاجرين في بروكسل من منظور سينمائي حميمي، شديد الخصوصية، يقبل بمقاربة فكرة الذهاب إلى الأبدية بمجاورة الحياة نفسها.
وثائقيات الجونة .. جمال الاشتغال والبحث العميق

نشر في: 13 نوفمبر, 2025: 12:03 ص









