فخري كريم
في ثورة العشرين (عام ١٩٢٠) كانت العمامة السوداء وشاحاً وطنياً يهتدي به الثوار. وطوال عقود الحكم الملكي حافظت تلك العمامة - بما عرف عن رجالاتها من تمثل لنبض الشعب ومعاناة أكثريته الكادحة من الحرمان والعسف - حتى صارت منابر من كان يبشر بمآثر الإمام الحسين ويصحح دلالاتها في الوعي الجمعي منتديات وطنية ومراكز لشحذ الوعي والتحريض على الانتباه واليقظة والوحدة الوطنية.
في ثورة العشرين، كانت العمامة السوداء رايةً للوطن قبل أن تكون شارةً للمذهب، وكان رجالها شموساً أضاءت سماء العراق يوم أظلمها الاستعمار. ارتفع صوت المرجع المجاهد السيد محمد تقي الشيرازي من سامراء يجلجل في أرجاء البلاد، فتتحول فتواه إلى نار في قلوب المقاومين: «مطالبة الحقوق واجب على العراقيين». وتقدم السيد محمد حسن الصدر بعمامته وهيبته، ينسج خيوط الوحدة بين أبناء الوطن، فيما كان السيد محمد علي هبة الدين الشهرستاني صوت الفكر والوعي في زمن البنادق، يكتب ويخطب ليعيد للثورة عقلها المستنير. أما السيد محمد سعيد الحبوبي، فكان مرجعاً حمل سيفه قبل قلمه، يقود الثوار من ضفاف الفرات إلى ساحات الكرامة، حتى قضى شهيداً في الميدان قبل الثورة، تاركاً للأجيال معنى العمامة التي تموت واقفة. وشاركهم السيد محمد جواد الجزائري، الذي جعل من المنبر مدرسةً للوطنية، يحرض الناس على الثورة ويذكرهم بأن الدين لا يستقيم ما لم يرفع الظلم عن الإنسان.
وحين انتقلت الثورة من ساحات القتال إلى معترك السياسة والفكر، واصل رجالٌ آخرون المسيرة من مكاتبهم ومنابرهم، فكانوا صوت الشعب في وجه الاستبداد والانتداب. كان محمد رضا الشبيبي شاعراً وعالماً ومربياً، جمع بين فصاحة اللسان ونقاء الموقف، فغدت كلماته دستوراً للكرامة. وبرز جعفر أبو التمن زعيماً وطنياً أصيلاً، قاد الحركة الوطنية بعقلٍ تنظيمي وإيمانٍ عميق بوحدة العراق، حتى صار رمزاً للنزاهة والإقدام. ووقف علي الشرقي، بقلمه ولسانه، يجلد الجهل والطائفية بخطبه النارية ومقالاته الجريئة، فيما كان عبد الكريم الماشطة - المثقف والمحامي والمناضل - ضمير العدالة في زمن غلب فيه الباطل، يجهر بالحق في وجه الطغيان دون خوفٍ ولا مساومة.
هؤلاء جميعاً شكلوا سلسلة من النور امتدت من الميدان إلى البرلمان، من منبر الثورة إلى منبر الكلمة. عمائمهم وأقلامهم وأفعالهم كانت تجسيداً لروح العراق الواحد، ولإيمان عميق بأن الدين والوطن صنوان لا يفترقان، وأن الكرامة لا تستعار من سلطان، بل تنتزع من بين أنياب الظلم. ولم تكن المنابر الحسينية في الخمسينيات والستينيات مجالس شيعية للندب واللطم والنواح، بل مناسبات لتأكيد الخيار الوطني وبلورة الهوية الوطنية العابرة للهويات والانتماءات الفضفاضة المسايرة للعزلة الطائفية والمذهبية والمكوناتية، والتمترس ورفض الآخر بالتمايز. كانت تلك المجالس - كما المواكب الحسينية في عاشوراء — مناسبة لتكريم الوطن بلقاء كل أبنائه وبناته: سنة وشيعة، بل ومن المسيحيين والإيزيديين والصابئة المندائيين وسواهم. وفيها يلامس المجتمعون الهمَّ العام، حيث كانت تتردد وتتبلور وتصاغ الشعارات الوطنية التي تتبناها الأحزاب والقوى الوطنية بمختلف مشاربها وأهوائها وتوجهاتها الفكرية والسياسية، وتنعكس في مواقفها وشعاراتها، وتساهم في تعبئة قواها وتوحيد نضالاتها للتحرر من التبعية والاستعمار والعبودية الإقطاعية واستعادة السيادة للبلاد والحرية للعراقيين.
ولم تكن تلك الحالة الخاصة بالعمامة ودور رجال الدين في العمل الوطني معزولة عن البيئة السياسية والنهوض الوطني المعادي للهيمنة الأجنبية البريطانية («الاستعمارية») والإقطاع ومصادرة الحريات، بل جزءاً أصيلاً من نسيج تلك البيئة التي اعتبرت من أبرز المحطات السياسية في تاريخ العراق الحديث. حيث برزت وتنامت المشاعر الوطنية، وأدت إلى تغليب المشروع الوطني العابر للطوائف والقوميات و»للهويات الفرعية» دون استثناء. وأمكن في ظل تلك البيئة -بيئة النهوض الوطني - التقاء الحركات السياسية الرئيسية بأحزابها الممثلة لها، ففي حزيران عام ١٩٥٤ أتيح أن تدخل الانتخابات في صيغة جامعة. وإحدى التجليات البارزة لتلك البيئة الطاردة للتخندق «الهوياتي» الثانوي وضيق الأفق، أن المرشحين سجلوا أنفسهم وفازوا في مختلف الدوائر الانتخابية دون اعتبار للانتماء القومي أو الطائفي أو المذهبي، فقد فاز مرشحون سنّة في مناطق شيعية أو كردية وبالعكس.
لكن تلك التجربة - رغم محدوديتها في العهد الملكي - أدت إلى إثارة القلق لدى مهندسي العهد، وعلى رأسهم نوري السعيد الذي اعتبرها خطراً على النظام الملكي فقام بإلغاء نتائجها، رغم أن عدد الفائزين فيها لم يتجاوز ١٢ نائباً من بين ١٣٥ عضواً كان يشكّلهم البرلمان. فازوا وهم يرفعون شعارات «الدفاع عن الاستقلال الوطني، ومقاومة النفوذ البريطاني، والمطالبة بالديمقراطية»، مستنكفين عن الانحياز للولاءات المذهبية أو المناطقية أو غيرها. لكنها — رغم محدوديتها — أدّت إلى تحول تلك الجبهة الانتخابية إلى ارتقاء بالعمل الوطني إلى جبهة الاتحاد الوطني بمشاركة كل القوى الرئيسية الممثلة للتيارات الفاعلة، بما في ذلك الحزب الشيوعي العراقي ومن خلاله الحزب الديمقراطي الكردستاني، ومَهَّدت لنجاح ثورة ١٤ تموز عام ١٩٥٨.
في تلك المرحلة لم يكن ثمة وجود لحركات بواجهات «إسلاموية ـ طائفية» ذات حاضنة شعبية وطنية. بل كان المناوئون للحركة الوطنية من أشباه رجال الدين، في صف النظام، حلفاء للإقطاعيين والسراكيل وممثلي الكومبرادور، معزولين عن البيئة الوطنية الشعبية. ولم يكن يسمع في الإذاعة الرسمية سوى برنامج الإخواني محمد الصواف مؤسس جماعة الإخوان المسلمين حيث كانت الأوساط الشعبية تسمي برنامجه بسبب ولائه للنظام «على مائدة الأمريكان»!
كان الخطباء الحسينيون في عاشوراء والمناسبات الدينية الأخرى يتناولون من على منابرهم سير الصحابة الأوائل بما يمثلونه من مبادئ وقيم سامية تتجسد فيها مآثرهم في الدعوة إلى الاستقامة والعدالة والنزاهة، وتجنب المعاصي التي تشوه سوية الإنسان المستقيم، وتمنع من التجاوز على الغير وتحضّ على الدفاع عن الحق والإنصاف وتنأى عن تفرقة الصفوف. ولم تكن مآثر الصحابي الجليل أباذر الغفاري غائبة عن تلك الخطب، بل كانت رسالة تجسد تلك المبادئ والقيم حتى في معرض إضاءة شهادة الإمام الحسين ومغزاها ومعانيها الإنسانية السامية.
كان أباذر في تلك المرحلة دعوة إيمانية للتقوى عبر التصدي لظلم الحاكمين، وتجاوزهم على بيت مال المسلمين، وفسادهم عبر أشكال المجون والتبذير والدعارة السياسية. أشهد، وأقولها قول الموقن لا المرتاب، أنني دخلت الحزب الشيوعي، لا اندفاعاً أعمى، ولا انجذاباً عارضاً، بل لأن في روحي ناراً قد أضرمتها أمثولة أبي ذرّ الغفاري، ذاك الراهب الثائر، الزاهد المتمرّد، الذي جعل من التقوى موقفًا، ومن الإيمان سيفًا مصلتًا في وجه الطغيان.
كان أبو ذرّ في تلك الحقبة دعوة سماوية إلى العدالة الأرضية، وصوتاً إلهيّاً يجلجل في وجه الحاكمين وهم يعبثون ببيت مال المسلمين، يغرقون في بحار المجون والتبذير، ويقيمون الدعارة السياسية على أنقاض القيم والمبادئ.
ولن أتردد في القول أن طريق الشيوعية قد انفتح لي عبر بوابة أبي ذرّ نفسه، ذلك الرجل الذي سيق من بيت الخلافة إلى الشام، ليقابل معاوية في دمشق، في محاولة لترويض ثورته وكبح غضبه عن انحراف الإسلام عن صفائه الأول. هناك، وقف أبو ذرّ، جسدًا نحيلًا وروحًا من صخر، يخاطب والي دمشق بلسان الحق الذي لا يلين:
«يا معاوية، إن كنت تبني قصراً في الدنيا، فأين مثله في الآخرة؟»
«يا معاوية، إن رأيت المال يُداول بين الأغنياء دون الفقراء، فاعلم أن أمر هذه الأمة إلى زوال.»
«عجبتُ لمن لا يجد القوت في بيته، كيف لا يخرج إلى الناس شاهراً سيفه!»
هكذا، في صوت أبي ذرّ، وجدت نداء العدالة الأبدية، ورأيتُ في تمرّده تجسيداً لمعنى الإيمان الحقّ، أن تُواجه الظلم باسم الله، وأن تُقاتل الفساد باسم الإنسان. ومن هناك، من صدى كلماته التي لم يَخْبُ بريقها عبر القرون، دخلتُ الحزب الشيوعي، لا جحودًا لإيماني، بل إيمانًا أعمق بأن العدالة، في جوهرها، هي وجه الله الآخر.
لم يكن أباذر وحده وراء بحثي عن عباءة الإيمان الحقيقي والعدالة، بل كان عمر بن عبد العزيز مثالاً آخر – وقد لقبه المسلمون بالخليفة الخامس- إذ ذكر عنه الزهد والعمل بيديه والنأي بالنفس عن مظاهر البذخ والتمتع بمال المؤمنين، وعرف بإعادة الحرمة لمنابر المسلمين، مانعاً ومحرّماً شتم الإمام علي وآل بيته الطاهرين.
ولم أجد ما أذكر به صدام حسين وزبانيته، وهم يوغلون في تعذيب وقتل الشيوعيين والوطنيين في أسوأ صعود لنظام البعث عام ١٩٧٧، أفضل من الفقرة في نهاية مقدمتي لكتاب «تحت أعواد المشنقة» ليوليوس فوتشيك:
النشيد
أشرف على النهاية
في منعطف منها، يقف في «الربذة»
أبو ذر الغفاري
يومئ بعينين مشرقتين، ضاحكتين، مخلصتين
قتلوك يا أباذر!
فيضحك…
وحاولوا أن يقتلوا فيك حبك لعصرك وللناس
ويضحك…
وتسألني يا سيدي، إلى أين؟
إليك يا سيدي، إلى العصر، وإلى فوتشيك…
ولكنك حزين، وقد قتلوني وأنا أضحك…
وقتلوا فوتشيك وهو يغني…
……
وداعاً، أبا ذر
وداعاً أيها الصحابي الجليل..
قد يسخر مني الآن حكام الصدفة «لصوص عباءة أبا ذر» ومغتصبو منابر الحسين وهم يلوثونها ببذاءات سلطتهم وما يقومون به من تشويه لقيم الحسين وأبا ذر، وتعريضهم بعمر بن عبد العزيز. تمعّنوا في أشكالهم، وانظروا بعيون أباذر وهم يخترقون الحواجز في مواكبهم وهم يروّعون الناس ويثيرون الأسى في نفوسهم، وتجولوا إن استطعتم في قصورهم المغتصبة من مال العراقيين بعيون أباذر، فهل ترون فيهم سوى أشباه بشر يلتحفون بالمال الحرام ويتخفون بعباءة أباذر…
مات أباذر وحيداً في صحراء الربذة وهو يوصي بأن يدفن بكفن حيك بيدٍ نزيهة، وبقماش من مال حلال لا شائبة ولا شبهة عليه…
يا أباذر، أيها الصحابي الجليل:
العن هؤلاء ممن يصادرون إرادة أوليائك المؤمنين ومحبيك، ويلتحفون بعباءتك ومأثرة الحسين. العنهم يوم ولدوا، والعنهم وهم يموتون بلا رحمة أو غفران، والعنهم يوم يبعَثون - إن كان لهم أن يُبعثوا…!








جميع التعليقات 7
د.محمد الحجاج
منذ 1 شهر
ونحن نعيش الآن نتائج الانتخابات لا أحد يتذكر اباذر ومأثره واصبحت طي النسيان وألهم الوحيد جمع المال والابتعاد عن طريق الوطنية مترافقا مع الجحود لكل ما هو منقذ للإنسان من هذا الواقع المذل المؤلم.
سعد محمد رضا علي
منذ 1 شهر
نحتاج الاف من ابي ذر لان معاويه في هذا الوقت تم استنساخه مثل النعجه دولي إلى مئات بل الاف لم بعد الوقت كافيا للاستلهام والنضال
Hani Akkawi
منذ 1 شهر
الولاء لله ايمان فردي الولاء للوطن سياسياً ، مدنياً ، عسكرياً واجتماعياً هوا ولاء حتمي وجماعي . الولاء لغير الوطن ، خيانة عظمي
أبو صبا. لولان
منذ 1 شهر
روعه وتحفه لم تكن المقاله جديده لكم بل امتداد لتاريخ مبعث فخر كرسته وعمل الصحه والعمر المديد لكم وكل ابداع و المدى من بابها إلى محرابها بخير
حميد الحريزي
منذ 1 شهر
السلام عليكم تحياتي الغفاري يمثل روح الاسلام المنحاز للفقراء في بداياته حيث كانت اية العفو تدعو ان لايحتفظ المسلم اكثر من قوت يومه ، . عند رواية(الاصدق لهجة) حياة وكفاح الغفاري جاهزة للطباعة فهل تبادرون...
سلام فضيل
منذ 1 شهر
لروح اباذر الجميلة السلام ولنبله الف تجية
صادق احمد
منذ 4 أسابيع
تحياتي استاذ فخري كريم، العمامة من أشكال الماضي اما كتبته ع محمد رضا الشبيبي فهو مفكر علماني قبل أن يرتدي العمامة ساهم في نشر الفكر العلمي. كنت أتوقع أن تكتب عن أباذر العراقي - يساري ساهم في النضال الفلسطيني وعاد إلى العراق لمواصلة النضال ضد فاشية البعث.