السماوة / كريم ستار
أصدرت السلطات قرارًا يمنع الزراعة على الأنهر في محافظة المثنى بسبب أزمة الجفاف الحادة وتراجع الخزين المائي، ما وضع آلاف المزارعين أمام موسم أخير يودّعون فيه أراضيهم التي توارثوها جيلاً بعد جيل.
على ضفاف نهر الفرات في محافظة المثنى، يقف المزارع مصطفى كاظم متحسّرًا وهو ينظر إلى أرضه التي اعتاد أن يزرعها منذ طفولته، قبل أن تصدر السلطات قرارًا يمنع الزراعة على الأنهر نتيجة أزمة الجفاف غير المسبوقة. الموسم الحالي سيكون الأخير بالنسبة له، كما يقول، فالمياه التي كانت تنعش الحقول لم تعد تصل، وقرار المنع جاء ليغلق ما تبقى من أمل لدى آلاف الفلاحين الذين ورثوا مهنة الزراعة عن أجدادهم.
يقول مصطفى: «لا يوجد عمل غير الزراعة. التعيينات الحكومية متوقفة، وفرص العمل نادرة. كنا نعيش على زراعة أرضنا، لكن قبل فترة جاءت الجهات المعنية وأبلغونا بمنع الزراعة بسبب الجفاف. اليوم لا نعرف أين نذهب ولا ماذا نفعل».
مصطفى ليس وحده في هذا المأزق؛ فالمشكلة تمتد لتطال آلاف المزارعين الذين يعتمدون اعتمادًا كليًا على الزراعة في معيشتهم، خصوصًا أولئك الذين يزرعون أراضيهم على ضفاف الفرات والرميثة. الأزمة المناخية وتراجع واردات المياه وتقلص الخزين المائي كلها عوامل ضربت القطاع الزراعي في صميمه، وجعلت المزارعين أمام خيارين أحلاهما مُرّ: ترك الأرض أو مواجهة الغرامات والعقوبات.
وزارة الموارد المائية أعلنت رسميًا منع الزراعة على الأنهر في الموسم الحالي بسبب ندرة المياه، مؤكدة أن الأولوية القصوى هي توفير مياه الشرب للسكان بعد وصول الخزين المائي إلى مستويات حرجة. وتشدد الوزارة على أن من يخالف التعليمات ستُفرض عليه غرامات قد تصل إلى خمسة ملايين دينار عراقي، إضافة إلى الحبس ورفع مضخات المياه. وفي تصريح لـقاسم محمد جبار، مدير الموارد المائية في المثنى، قال: «نحن كوزارة همّنا الأول توفير المياه، ولا توجد أي حصص مائية يمكن تخصيصها للاستخدامات الأخرى. الوضع المائي حرج جدًا، والوزارة تشدد على معاقبة المخالفين حفاظًا على ما تبقى من خزين المياه».
ويضيف جبار أن الوضع هذا العام مختلف تمامًا عن الأعوام الماضية، إذ كانت حصة المثنى الزراعية في الموسم السابق تبلغ خمسين ألف دونم مزروعة على الأنهر، لكن هذا الموسم انخفضت الحصة إلى صفر نظرًا لتراجع منسوب مياه الخزانات، وهو تراجع غير مسبوق منذ سنوات طويلة. ويقول: «السنة الماضية كانت حصة المثنى الزراعية خمسين ألف دونم، أما هذا الموسم فلا توجد أي خطة زراعية على الأنهر. خزاناتنا وصلت إلى مستويات لا تسمح بالتفريط بقطرة مياه واحدة».
في قرية أخرى على نهر الرميثة، يجلس المزارع عبد الأمير شعلان قرب بئره الجافة، متحدثًا بمرارة عن الوضع. يقول: «زرعنا الأرض وجهزناها بالبذور والسماد، وصرفنا ما نملك على التحضير للموسم، وفجأة جاء قرار المنع. إذا لم نزرع نخسر، وإذا خالفنا ندفع غرامات بالملايين. نحن مزارعون بسطاء، من أين نأتي بالغرامات؟».
هذا الشعور بالضياع يتكرر على ألسنة كثير من الفلاحين الذين يرون في القرارات الحكومية خطوة قاسية، رغم إدراكهم لصعوبة الوضع المائي، إذ يشير بعضهم إلى غياب البدائل وعدم وجود دعم تعويضي، وافتقار المناطق الزراعية إلى مشاريع ري حديثة أو حلول مستدامة.
وتعاني محافظة المثنى، وخصوصًا قضاء الرميثة، من شح حاد في المياه، إذ يُعد نهر الرميثة المصدر الرئيس لتغذية مشاريع مياه الإسالة التي تزود مناطق واسعة بالمياه الصالحة للشرب. وتراجع منسوب النهر أدى إلى انقطاع المياه عن بعض المناطق لفترات طويلة، ما دفع الوزارة إلى إعطاء الأولوية لمياه الشرب على حساب أي استخدام آخر، بما فيها الزراعة.
ويؤكد المهندس حسن فاضل، خبير موارد مائية، أن شح مياه الرميثة ناتج عن قلة الإيرادات القادمة من أعلى النهر، إضافة إلى التجاوزات على الحصص المائية في محافظات أخرى. ويقول: «المشكلة مركّبة وليست بسيطة. المثنى من أكثر المحافظات تضررًا لأنها تقع في ذيل الحصة المائية، وأي انخفاض في الإيرادات ينعكس مباشرة على سكانها وقطاعها الزراعي».
ويقف المزارعون اليوم على حافة التغيير القسري لمهنتهم، إذ إن آلاف الدونمات ستبقى بلا زراعة، ما يعني تراجع الإنتاج المحلي، وزيادة البطالة، وارتفاع معدلات الفقر في محافظة تُعد من الأكثر حرمانًا في العراق.
ويقول مصطفى، وهو ينظر إلى أرضه للمرة الأخيرة هذا الموسم: «هذه الأرض عمرها مئات السنين. نحن لا نعرف مهنة غير الزراعة. تركنا لها كل شيء، واليوم يُطلب منا تركها. إذا استمر الوضع هكذا، فالمثنى ستتحول إلى أرض عطشى بلا مزارعين».
ويطالب المزارعون الحكومة بتوفير بدائل واقعية مثل تعويضات مالية أو توفير مشاريع للري بالتنقيط أو حفر آبار، إلى جانب إطلاق حملات حقيقية للحد من التجاوزات على الأنهر وتوزيع الحصص المائية بعدالة.
وبين قرارات الوزارة وصرخات الفلاحين يبقى المشهد ضبابيًا؛ الجفاف ينهش الأراضي، والموارد المائية تنكمش، بينما يكافح أبناء المثنى للاحتفاظ بموروث أجدادهم. وفي ظل غياب حلول مستدامة، قد يكون هذا الموسم بالفعل آخر موسم لآلاف المزارعين الذين يودعون أرضهم رغماً عنهم، في انتظار بصيص أمل يعيد الحياة إلى شواطئ الفرات والرميثة من جديد.










