د. نادية هناوي
تُشاع في الأوساط الثقافية تصورات كثيرة تتكهن بانتهاء عصر السرد الإنساني وابتداء عصر السرد الحاسوبي المنتج بواحد من نماذج الذكاء الاصطناعي اللغوية. ولا تتوقف التكهنات عند فكرة إلغاء دور السارد البشري، بل ومساهمة هذا الذكاء أيضا في تعزيز النظرية السردية وتطوير مفاهيمها من خلال الاستعانة بتقنيات الذكاء الاصطناعي ودمجها في عمل آلة الحاسوب. ولكن ما الذي يمتلكه السرد الحاسوبي من سمات فنية أو فاعليات جمالية تجعلنا نفيد منه في تطوير السرد الإنساني ونقده ؟.
هذا ما يعنى بالبحث فيه «علم السرد الحاسوبي» بناء على ما ينتج من سرديات حاسوبية بمعنى أن إنتاجية هذا العلم تتوقف على مدى استيعاب الأديب لآلية عمل لغة البرمجة الحاسوبية الجافا والتي تطورت كثيرا عن سابقتها «لغة الداتا» وكيفيات استعمال النماذج اللغوية الكبيرة فيها. وبالشكل الذي فيه يجعل المستخدم مواكبا ما يجري في مجال توليد الآلات الذكية للمحتوى السردي. ولا شك في أن خصوصية عمل هذا النوع من السرد إنما تقوم على مسألتين تبدوان متضادتين :
الأولى: تنطلق للأمام منتهجة التعدد الاختصاصي في الجمع بين المسائل التقنية وما وصلت إليه السرديات ما بعد الكلاسيكية من كشوفات نظرية في علوم جديدة مثل علم السرد غير الطبيعي وعلم السرد الوسائطي وعلم السرد المعرفي وعلم السرد ما بعد الرقمي.
الثانية: تنكفئ إلى الخلف عائدة إلى السرديات الكلاسيكية وباحثة عن تمثيلات منهجية تناسب التقنيات الحاسوبية في توليد السرد وتتمثل في منهج بروب الشكلاني والفهم الأرسطي والفكر البنيوي وما بعد البنيوي.
قد يبدو هذا التضاد في عمل علم السرد الحاسوبي أمرا طبيعيا على نية الجمع بين النظريات الأدبية والخروج بمحصلة نقدية تفيد في تقييم إنتاج القصص باستخدام الآليات الرقمية غير أن السرديات ما بعد الكلاسيكية لم تأت من فراغ، بل هي تمخضات علمية ومحصلات ما أسفرت عنه السرديات الكلاسيكية من تصورات كانت قد نجحت فيها او ربما تصادت عنها او أهملتها.
والتطور في العلوم كما هو معروف تراكمي حيث كل نظرية تضيف إلى سابقتها كشفا مختلفا او معرفة جديدة ضمن الحقل الذي تتخصص فيه. ومن يرد أن يواكب تطور أي علم، فسيجد بالتأكيد أن العلوم لا نهاية لها فهي في حالة تقدم دائم. وهذا ما ينبغي أن يأخذه علم السرد الحاسوبي بنظر الاعتبار أي الانطلاق من السرديات ما بعد الكلاسيكية، كي يثبت لنفسه هوية مستقلة ويكون في عمله امتدادا نوعيا وإضافة مبتكرة إلى علوم هذه السرديات. غير أن ما ينطلق منه منظرو علم السرد الحاسوبي هو الذي يدفع صوب الوقوع في دائرة هذا التصادي في المسألتين آنفتي الذكر. أما الغاية فهي توفير إطار عام لفهم كيفية توليد المحتوى السردي الاصطناعي ونقده سواء من ناحية العلاقات والعناصر والأبنية أو من ناحية تحليل قواعد البيانات والربط بينها والتصوير والتمثيل وحل المشكلات والمخططات ومعالجة اللغات الطبيعية واستخدام النص الفائق والشبكات العصبية.. الخ. وفيما يأتي عرض لبعض مفاصل ذاك الإطار العام:
- مولِّد السرد، ويعني أن يؤقلم «الذكاء الاصطناعي» مفاهيم النظرية السردية بوصفها فكرا أصيلا هو حصيلة تراكم التنظيرات التي وضعها فلاديمير بروب ورومان جاكوبسون وكلود بريموند وجيرار جينيت وغيرهم حول السارد والشخصيات والزمان والمكان والحوار عبر تمثيلها تمثيلا حاسوبيا دقيقا ومحددا على بيانات ضخمة جدا أولا ثم معالجتها على وفق خوازرميات تحاكي البنية السردية بتمثيلات آلية قابلة للحساب. والمحصلة محتوى سردي حاسوبي يحاكي ما هو مخزون في الشبكة العنكبوتية من نصوص سردية. ويمكن لمولد السرد أن يقوم أيضا بتحليل هذا المحتوى السردي وتفسيره بناء على ما هو مُغذى به من بيانات هائلة تدور حول النقد الأدبي كنظريات ومناهج ومدارس، تمت أقلمتها بأنظمة الذكاء الاصطناعي. ويشير الباحث الياباني تاكاشي اوغاتا إلى نمط من مولد السرد يقوم على التحكم الدائري في السرد، وله معنيان: الأول التوليد كآلية خطابية والآخر التوليد كتحكم حر ومرن في ترتيب مراحل توليد السرد، ويُنفذ بشكل تدريجي من خلال نظام معين.
- الوسائط الرقمية: المقصود بها أدوات مساعدة في إنتاج نصوص فائقة بخوارزميات اندماجية توليدية، فيها القارئ جزء من الحكي. فالوسيط وسيلة، تفتح للسرد مجالات إنتاج جديدة مثل الصور والفيديوهات والأصوات والرسوم المتحركة وغيرها من المجالات التفاعلية التي تخلق عمقًا وانغماسًا في السرد. مما يمكّن المبدعين من استحضار المشاعر ونقل المعلومات بطرق أكثر دينامية.
- الإنسانيات الرقمية او الحوسبة الادبية واللغوية والإنسانية، وتعني أن للتكنولوجيا الرقمية دورها في أن تزيد من تأثير الصناعة الثقافية في الحياة لدى غالبية المجتمعات، وأن ممارساتنا الثقافية التي تمر بهذا التحول الرقمي هي بحاجة أكثر من أي وقت مضى إلى تسليط الأضواء العلمية عليها وإخضاعها للقراءة النقدية التي توفرها الإنسانيات من أجل المزيد من التطور.
- قصص جيل الإنترنت: هو تصنيف نمطي للتواصل الجماهيري ضمن الفضاء الإلكتروني مع التركيز على مدوني القصص والسير الذاتية التي تضيء جوانب معينة من واقع المراهقين والشباب في عصر الإنترنت. وتلعب تكنولوجيا وسائل الإعلام دورًا بدهيًا وضروريًا في هذه القصص. ولا يُعنى في تحليلها بسرد القصص في حد ذاتها، بل بماهية التواصل وكيف يكون.
- السيولة والثبات: ويتحققان في تصميم أنواع مختلفة من المحتويات وتوليدها، بما في ذلك توليد السرد الذي يُنتَج بواسطة أنظمة محددة وخاصة. وعادة ما يتميز المحتوى المعلوماتي بخصائص فنية منها مثلا: القدرة على التكوين الحر أو التنظيم الذاتي، التوليد الآلي.
- المعيار والانحراف ويعني تكنيك التحكم بالسرد اعتمادا على المعيار؛ أولا بوصفه إطارا قياسيا لما ينبغي أن يتم بموجبه توليد السرد وثانيا الانحراف عن هذا المعيار أي الانزياح عنه بقصد جعله لا مألوفا. وهذا ما يذكرنا بمفهوم عدم الألفة عند شكلوفسكي واجترحه في مقالته المهمة( الفن كتقانة) وقد تطور هذا التكنيك تأثرا بنظرية الألماني روبرت ياوس 1970 حول الاستقبال من زاوية أن القراء أو متلقي الأعمال السردية عادةً ما يفضلون الأعمال التي تنحرف عن النهج أو الاستراتيجية المعروفة في الإبداع الأدبي.
ومهما يكن أمر مفاصل هذا الإطار العام، فإن التقنيات الحاسوبية ووسائطها المتعددة لن تجعل السارد الاصطناعي يشعر بشعور السارد البشري، بل كل الذي تقدر تلك التقنيات على إنجازه هو محاكاة الإبداع البشري محاكاة استنساخية.
وبدلا من أن يتوجه المتخصصون العرب نحو رصد ظواهر السرد الراهن، نجدهم ينشغلون بالتقوقع على السرديات البنيوية وما بعدها على اختلاف تفرعاتها. ويتخذ قسم منهم طريق الصد والتفنيد وليس الترحيب والانفتاح. وكل معاولهم موجهة نحو الهدم. وعلى الرغم من أنهم متفقون على أن دراسة السرد القديم والحديث والمعاصر تحتاج إلى النظرية، فإنهم أيضا متفقون على أن من يأتي بنظرية واهم، ونظريته مجرد أوهام!!. فلا هم توصلوا إلى النظرية، ولا هم تركوا النظرية تثبت صحتها أو وهمها بنفسها؛ ذلك أن النظرية تبدأ بعمل فردي ولكنها تحتاج إلى حاضن عام وجماعي يعمل على تبنيها أو تصويب بعض مساراتها.
واستنادا إلى هذا كله سيبقى نقدنا الأدبي في أزمته المعاصرة سواء في ما يتعلق بالسرد الإنساني أو السرد الحاسوبي. ويتحمل بعض النقاد الفاعلين مسؤولية استمرار هذه الأزمة وتعقدها.
الحاسوب سرداً.. الحاسوب علما

نشر في: 16 نوفمبر, 2025: 12:03 ص









