عطا شميراني
في لحظة سياسية تُعد من الأكثر تعقيدًا منذ سنوات، يجد محمد شياع السوداني نفسه داخل عنق زجاجة لا يتيح حركة واسعة ولا خيارات مريحة. فالمعادلة التي حكمت المشهد العراقي منذ عام 2003 بلغت ذروة تشابكها: واشنطن التي تريد حكومة لا تُهدد مصالحها ولا تُطلق يد الفصائل، وطهران التي تريد حكومة تُبقي نفوذها الاستراتيجي ثابتًا، والقوى المحلية التي تبحث عن حصصها ومكاسبها وتريد الظهور بمظهر الممسك الحقيقي بزمام القرار. هكذا تتحول مهمة تشكيل الحكومة المقبلة إلى محاولة للمشي على حافة سكين، لا على أرض سياسية صلبة.
السوداني يدرك أن أقصى ما يمكنه فعله هو إدارة التناقضات لا تفكيكها. فالقوى التي تُشكّل الإطار السياسي ليست كتلة واحدة، بل شبكة مصالح متضاربة، لكل طرف حسابات مع واشنطن ومع طهران ومع الشارع العراقي أيضًا. وهذا التعقيد جعل منصب رئاسة الوزراء، الذي يبدو تنفيذيًا في الشكل، منصبًا لتصفير الضغوط وإعادة ضبط التوازن بين ثلاث دوائر: الخارج المتحفز، والداخل الممزق، والشارع الذي لم يعد يثق بسهولة بأي خطاب سياسي.
وتشير اللحظة الراهنة إلى أن واشنطن لم تعد تتعامل مع بغداد كملف أمني فحسب، بل كحلقة مركزية في صراعها الأوسع مع إيران. لذلك، فهي تطلب من السوداني ضمانات واضحة: استمرار التنسيق الأمني، الحد من نفوذ الفصائل، وإدارة مسار اقتصادي لا يسمح بانهيار مالي أو تهريب عملة أو التفاف على العقوبات. لكن تنفيذ هذه الضمانات يصطدم بقوى سياسية ترتبط بطهران ارتباطًا عضويًا أو تعتمد على مظلتها في تثبيت مواقعها.
أما إيران، وهي تمر بمرحلة حساسة داخليًا وخارجيًا، فلا تريد حكومة عراقية تصادمية أو متمردة، لكنها في الوقت نفسه لا تقبل بحكومة تُضعف أعمدة نفوذها في بغداد. تريد عراقًا مستقرًا، آمنًا، متداخلًا اقتصاديًا معها، يراعي حساسيات الصراع الإقليمي. وكلما زاد الضغط الأمريكي، ازدادت طهران تمسكًا بمطالبها. وهكذا يجد السوداني نفسه بين طرف يريد خطوات حاسمة، وآخر يريد تطمينات دائمة، فيما بغداد غير قادرة على السير بخطوتين متعارضتين في الوقت نفسه.
وفي داخل الإطار السياسي، تتصاعد التناقضات بصورة لا تقل تعقيدًا. فالقوى التي سمحت بعودة السوداني ليست القوى نفسها التي ستمنحه تفويضًا مطلقًا. بعضها يريد إعادة توزيع الحصص، وبعضها يريد ضمانات مسبقة للمواقع الوزارية، وبعضها الآخر يفكر أصلًا بانتخابات مبكرة ولا يريد حكومة قوية. وعلى الرغم من أن السوداني يحاول الظهور كمرشح توافقي قادر على جمع المتخاصمين، إلا أن مساحة المناورة التي كانت متاحة له سابقًا أصبحت اليوم أضيق بكثير.
المعضلة الأكبر أن العراق اليوم يقف أمام حكومة يُطلب منها أن تكون قوية في المضمون، ضعيفة في الخطاب؛ مستقلة في الشكل، تابعة في الممارسة؛ وأن تُرضي الشارع الغاضب والشركاء السياسيين والحلفاء الخارجيين في آن واحد. هذا التناقض البنيوي جعل عملية تشكيل الحكومة تبدو كأنها لعبة شطرنج متواصلة، خطوة فيها تُغضب طرفًا وتُطمئن آخر، ولا أحد مستعد لتقديم تنازل كامل.
السوداني يدرك أن النجاح لا يعني تشكيل الحكومة فحسب، بل تشكيل حكومة لا تتهاوى بعد أشهر ولا تتحول إلى ساحة اشتباك مفتوح بين واشنطن وطهران. لذلك، يتقدم بحذر نحو صياغة توافق داخلي قبل أي تفاهم خارجي، مدركًا أن العاصمتين يمكنهما التفاوض لاحقًا على هوامش الحركة، أما القوى العراقية فلن تمنحه فرصة ثانية إذا بدأ بقرارات تُصنّف في خانة الانحياز.
التحدي الحقيقي ليس توزيع الحقائب، بل توزيع الأدوار. فهناك وزارات تُعد مفاتيح السلطة الاقتصادية والأمنية، ولا أحد مستعد للتفريط بها. وعليه، أمام السوداني خياران أحلاهما مر: حكومة موزونة لكنها ضعيفة في البرلمان، أو حكومة قوية داخليًا لكنها ثقيلة خارجيًا ومقيدة الحركة. وفي كلتا الحالتين، لا يغادر عنق الزجاجة، لكنه قد ينجح في منع الزجاج من الانكسار.
إن اللحظة التي يمر بها العراق ليست لحظة تشكيل حكومة فحسب، بل لحظة اختبار لمعادلة النفوذ بين واشنطن وطهران. والسوداني، شاء أم أبى، سيكون الواجهة التي ستظهر عليها نتائج هذا الاختبار. وإذا كان قد نجح في تجربته السابقة في ضبط الإيقاع بين القوى المتناقضة، فهو اليوم مطالب بإعادة إنتاج تلك البراغماتية في ظروف أصعب، وتوازنات أدق، وهامش حركة أضيق.
ويظل السؤال معلقًا: هل يستطيع السوداني الخروج من عنق الزجاجة دون أن ينكسر الزجاج نفسه؟ أم أن الحكومة المقبلة ستكون مجرد هدنة سياسية مؤقتة، تنتظر انفجارًا في لحظة لا يريد أحد أن يتخيلها؟










