د. أحمد عبد الرزاق شكارة
الفوز اللافت لزهران ممداني في انتخابات عمدة نيويورك يجعلنا نفكر في الدلالات والتداعيات لمثل هذا الزلزال ليس فقط على الصعيد الأمريكي وإنما في العراق ذاته في مقاربة (مع الفارق في معيار ومنهج المقارنة)، خاصة نحن في ظل مرحلة مفصلية تعقب انتخابات برلمانية سادسة جرت في 11/11/2025 يُنتظر أن تغير من طبيعة ومسار المشهد العراقي للتجربة الديمقراطية في العراق منذ 2003 – 2005 وحتى 2025، إما نحو التقدم باتجاه بناء دولة المواطنة الحقيقية أو ما يعرف بالدولة المدنية التي تؤكد أولوية الاهتمام بالمطالب الأساسية للشعب العراقي دونما أي ميز وفقًا للانتماءات المحترمة على الصعد المجتمعية – الاقتصادية – الأيديولوجية – الثقافية وغيرها ولمقياس متوازن عادل نسبيًا يُثمن الكفاءة ودورها في القيادة والإدارة متسقًا مع منظومة القيم الإنسانية التي تعلي أولوية الالتزام بالحقوق والواجبات العامة للجميع (حكامًا ومحكومين). أو إننا سندور في حلقات مفرغة من التنافس المبني على أسس شخصية (ذاتية – مصلحية) سواء أكنّا أفرادًا أم جماعات – كتل – أو أحزابًا، بعيدين عن أية طروحات، سياسات أو برامج وخطط استراتيجية ترتقي بدور حيوي للمؤسسات البناءة الشرعية التي تعد برامجها الإصلاحية جزءًا لا يتجزأ من برامج إنسانية تنموية.
العراقيون ينحون باتجاه نقل العراق نحو مرحلة ازدهار آمن – تنموي إنساني مستدام، فهل ستحقق الأماني أو التوقعات؟ تساؤل مشروع يدعو لمقاربة نسبية بين ما حدث من نتائج انتخابية لافتة في ولاية نيويورك (أكبر عاصمة للمال وللأعمال) وما ينتظرنا من مستقبل في العراق عقب الانتخابات السادسة للبرلمان العراقي، ربما ترينا صورة من بعض الملاحظات العامة التي يمكن الاستفادة منها نسبيًا من التجربة النيويوركية الجديدة التي قادها وخطط لها زهران ممداني وفريقه الشبابي بكل براعة واقتدار للفوز الباهر في الانتخابات التي ستُتوَّج بتسنّم زهران دفة القيادة في يناير 2026:
أولًا: زهران ممداني من جيل الشباب المهاجر من أصل هندي آسيوي – إفريقي، عمره 34 عامًا حصل على تأهيله الدراسي العالي عبر مراحل زمنية انطلقت عقب مغادرته وأسرته من أوغندا مُرغمًا في بداية السبعينات من القرن الماضي كنتيجة لسياسة إقصاء دكتاتورية اعتمدها عيدي أمين رئيس البلاد الأسبق للجالية الآسيوية في كمبالا مهاجرًا أولًا لجنوب إفريقيا ومن ثم للولايات المتحدة الأمريكية حيث أكمل دراسته العليا وبدأ فعليًا ممارسة العمل البلدي والتشريعي على الصعيد المحلي. حقيقة لم يكن زهران معروفًا نسبيًا في الولايات المتحدة قبل تجنسه في عام 2018 حيث فعّل لاحقًا دوره المهني استعدادًا لدور قيادي يتمكن من خلاله التقدم لانتخابات رئاسة سدة عمودية نيويورك أضخم وأشهر مدينة للمال وللأعمال عالميًا، مدعمًا بقدرات مالية محدودة نسبيًا ولكن من دون دعم حزبي مؤسسي ضخم كالذي توافر لمرشحين آخرين خاصة العمدة السابق للمدينة أندرو كومو الذي أنفق ما يقارب سبعة أضعاف ما أنفقه زهران على حملته الانتخابية. تمكن في النهاية من الانتصار التاريخي اللافت بنسبة وصلت إلى 50.4 في المائة حاصدًا أكثر من مليون صوت انتخابي متغلبًا بفارق كبير على مرشحين آخرين بخاصة مرشح الحزب الديمقراطي أندرو كومو الذي حصل على (40.6). لعل من المفارقات أن كومو المرشح الديمقراطي التقليدي السابق حظي بتأييد كبير من الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ومن بعض قيادة الحزب الديمقراطي الرئيسة باستثناء الجناح اليساري الذي مثله عضو الكونغرس المعروف بيرني ساندرز وحاكم نيويورك الحالي أيضًا.
لعل المرء يحار في كيفية تمكن زهران من الوصول لسدة عمودية نيويورك برغم كل الإعلام والمال الضخم الذي أُنفق من قبل منافسيه لإحباط مشروعه الانتخابي؟ تساؤل مشروع يرجع لعدد من الاعتبارات تختص جوهريًا بالعامل الشخصي حيث تمتع زهران ببعض السمات الكارزمية التي تحتاج لبحث معمق يتناول الجانب السيكولوجي – النفسي والاجتماعي، وأخرى للعوامل الموضوعية البيئية – المادية والمعنوية الفكرية المحيطة خاصة عقب وصوله وأسرته للولايات المتحدة. لعل بعض العبارات اللافتة التي استخدمها زهران في حملته تستدعي التوقف عندها لأنها تؤكد مدى أهمية استعادة الثقة بين القيادة والشعب: "إسقاط عرش الطغيان السياسي"، وأخرى مهمة جدًا تشي بضرورة إعطاء الحق لمستحقيه قالها باللغة العربية: "إنا منكم وإليكم". مضيفًا دور الأسرة (الأب والأم والزوجة) الحيوي في تشكل هويته الوطنية دون التخلي عن انتمائه للإسلام أو عن تراثه الآسيوي – الإفريقي الذي شكل رافعة قيمية تتفاعل مع اهتمامه بقيم وقواعد الدستور الأمريكي والقانونين الدولي العام والإنساني.
ثانيًا: شخصية زهران "الكارزمية" لها دور استثنائي في علاقتها مع المؤسسات الأمريكية:
الأمر أولًا يرجع أساسًا لكون شخصيته جزءًا من جيل الشباب باعتبارها فئة بارزة من (جيل المهاجرين) الثاني والثالث للولايات المتحدة الأمريكية الذين وجدوا في أمريكا موطنًا ومصدرًا ومؤولًا حيويًا لمستقبل حياتهم، إذ وقع على عاتقهم مسؤولية مشتركة لبناء الدولة وتطوير مؤسساتها، فئة ممثلة بحق لشرائح سكانية متنوعة المستويات الاقتصادية – الاجتماعية – الثقافية من أعراق – أجناس – قوميات وأديان (مذاهب) مختلفة. تميز زهران بسمة الكارزمية، التي يمكننا إطلاقها على قيادات عالمية معروفة خاصة لكونها حققت نتائج إيجابية (مثل: غاندي – نهرو – نيلسون مانديلا – أبراهام لنكولن – جمال عبد الناصر – جون كيندي وغيرهم)، التي يعد زهران بصورة معينة امتدادًا طبيعيًا لها. ليس لكونه كارزميًا خارقًا للعادة بقدر ما تستجيب الكارزمية لمحاولته في الاستجابة وبسرعة لافتة لطبيعة المشكلات والأزمات المجتمعية – الاقتصادية في الجوهر محاولة يراد لها أن توجد حلولًا ناجعة. يقول الدكتور عبد الجليل في كتابه (المشكلات الاجتماعية في حضارة متبدلة) إن الشخص الكارزمي "ليس بالضرورة يتمتع بصفات خارقة للعادة ولكنه ينشأ ويترعرع وسط وضعية كارزمية وهي وضعية حقيقية ذات ظروف اقتصادية واجتماعية وسياسية ونفسية". هذا بالضبط ما منح زهران ممداني وأسرته فرصة نادرة لاقتناص فرصة الهجرة والعمل المهني الجدي المبدع ضمن إطار شرعية الإنجاز التي تمكن من صياغة بوتقة إيجابية تبلور مسارًا مستدامًا من مرحلة الاندماج للثقافات المتنوعة على أسس العدل الاجتماعي – الاقتصادي – الثقافي – والسياسي – الإداري تجسيدًا حقيقيًا للهوية الأمريكية (الوطنية). انتمى زهران ممداني لمجموعة الاشتراكية الديمقراطية التي ينتمي لها شخصيات معروفة سياسيًا مثل بيرني ساندرز وآخرين معززًا دورهم الفاعل النشط باتجاه كسر الحواجز البيروقراطية والاقتصادية – السياسية المعيقة للتقدم الاقتصادي – الاجتماعي والسياسي بخاصة مناصرتهم لدور الطبقة العاملة وغيرها من الشرائح الاجتماعية محدودة الدخل التي تعيش ظروفًا صعبة نسبيًا. لذا خاض زهران مع فريقه الانتخابي المؤيد لبرنامجه الإصلاحي مراحل متعددة من الصراع المشروع لرفع الحيف الاقتصادي – الاجتماعي والقانوني انتقالًا لمرحلة تنمية حقيقية لمستويات المعيشة مع استمرار جاد في حملة محاصرة الفقر الأمر الذي استدعى تأييد النقابات والاتحادات العمالية على اختلاف مظاهرها وأنواعها إضافة للمجموعات الطلابية وللنخب المثقفة والإعلامية المتنورة. لا شك أن دور الثقافة والتعليم وإدراك خطورة المسؤولية المجتمعية لحل المشكلات والأزمات توسع الوعي ومدارك الاطلاع المعرفي التي نحن في العراق بأمس الحاجة إليه بغية إطلاق حملات واسعة للتنوير الفكري توفر ساحة خصبة لمشروعات مستقبلية للتنمية الإنسانية المستدامة. تقديري أننا بحاجة ماسة في العراق لمراجعة جدية للتاريخ السياسي – الاقتصادي والاجتماعي بل والثقافي لمعرفة إمكانية الاستفادة من نقاط القوة وترك نقاط الضعف التي تبنى فقط على المطامح والمصالح الذاتية دون النظر للأفق الأوسع للوطنية العراقية.
ثالثًا: برنامجه الانتخابي: إن وصول زهران ممداني للسلطة العمودية لنيويورك يمثل حدثًا بل حلمًا زاهرًا ولافتًا بكل المقاييس. الشيء الذي يجب أن نؤكد أن دور السيد زهران يتمثل في التقرب الشديد من مختلف الشرائح الاجتماعية الأمريكية على الصعد كافة عدَّ أساسيا لاستكمال حراك شعبي منظور للاقتصاد السياسي الاشتراكي الديمقراطي الذي يركز على المساواة والعدل الاقتصادي – الاجتماعي بهدف تقليص الفجوة التي اتسعت كثيرًا بين المالكين لمئات البلايين من الدولارات – الأقلية الأوليغارشية – والآخرين من الذين لم يسعفهم الحظ ممن يعيشون في ظل إمكانات مادية أقل بكثير من المستوى اللائق للمواطنين في أغنى مدينة عالمية تصل موازنتها إلى ما يقارب من 115 بليون. من هنا أهمية طرحه لبرنامج إداري – اقتصادي – اجتماعي – خدمي كفوء متخصص وشامل يلبي احتياجات هذه الفئة المحرومة بل وحتى الفئة المتوسطة الدخل بقصد جعل تكاليف الحياة مقدورًا على تجاوزها (عرفها – Affordable) ما يلي:
1. رعاية صحية مجانية للأطفال.
2. نظام مواصلات ونقل عام مجاني.
3. تجميد الإيجارات وفقًا لمستوى محدد يمكّن السكان من العيش الكريم المكرم.
4. من هنا أهمية بناء مجمعات سكنية قليلة التكلفة سواء في الإيجار أو للتملك الحر.
5. نشر مجمعات للتسوق تقدم للمواطنين بضائع وخدمات مدعومة حكوميًا.
6. إجراءات متنوعة أخرى حيوية لرفع مستوى ونوعية المعيشة للسكان من مختلف الفئات والطبقات التي عانت من سوء الإدارة ومن تحكم طبقة المليارديرات في الشؤون الاقتصادية للبلاد.
هل مثل هذا الإجراء من الصعب تطبيقه في عراق يمتلك ثروة هائلة من عوائد النفط؟ لا أتصور ذلك بالقطع طالما توافرت إرادة التغيير الإيجابي الإداري – السياسي، مسألة تعنينا بشكل أساسي على الصعيدين الوطني والمحلي للمحافظات ولكل أجزاء وتقسيمات النظام السياسي – الإداري وفقًا للأوضاع الجيوسياسية في كل أنحاء البلاد. إن سردية تطبيق نظريات العدل الاقتصادي – الاجتماعي في ظل مجتمع رأسمالي متوحش إذا صح التعبير لا بد من إعادة النظر فيها، لأن من يود العيش الكريم المكرم لا يمكنه أن يحقق نجاحًا نوعيًا في حياته في مختلف حقول الحياة طالما بقيت أقلية تتحكم بشؤون ورزق العباد. ليس معنى ذلك إلغاء منتج العولمة والنظام الرأسمالي برمته ولكن القصد كما استقصي رؤية زهران ممداني ترتبط بإجراء إصلاحات تنموية شاملة أو جزئية للنظام الرأسمالي في مدينة تعد أم الرأسمالية ليس فقط في الولايات المتحدة الأمريكية بل في العالم. السؤال المهم والمقلق نسبيًا لنا في العراق: كيف يمكننا الانتقال من مرحلة النمو التي تتحقق بسبب الاهتمام المتزايد بثروة النفط التي يفترض أن تنقلنا لمسار التنمية الإنسانية المستدامة التي نرجو أن توصلنا لمرحلة أكثر إشراقًا في المديات المتوقعة بعيدًا عن استمرار الحلقة المفرغة لدور الدولة الريعية المعتمدة بشكل يكاد يكون كليًا على الدخل من إيرادات النفط الذي ينحو مساره المتأرجح بين الارتفاع والانخفاض؟ صحيح أن النفط يمثل أكثر من ثلثي الناتج المحلي الإجمالي (Gross Domestic Product: GDP) إلا أننا لا زلنا نفتقد لرؤية استراتيجية ترسم طبيعة النظام الاقتصادي – الاجتماعي – السياسي لنا. من هنا أهمية التأمل والقراءة الدقيقة للتطورات المرتقبة لما ستؤول إليه أوضاع نيويورك عقب تسنم ممداني إدارة عمودية نيويورك في بداية العام 2026 وغيرها.










