د. فالح الحمـــــراني
منذ أن أصدر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في 29 تشرين الأول بيانًا يأمر فيه البنتاغون ببدء تجارب الأسلحة النووية "على قدم المساواة". وموضوعة الأسلحة النووية باتت الشغل الشاغل ليس لوسائل الإعلام وحسب، بل لمراكز التحليل الإخبارية، ولجان الأمن الوطني في العديد من الدول. وصرح فاسيلي نيبينزيا، المندوب الدائم لروسيا لدى الأمم المتحدة، إن استئناف التجارب النووية الأمريكية قد يؤدي إلى تصعيد وجولة أخرى من سباق التسلح. مؤكدًا أن روسيا تراقب الإجراءات الأمريكية. وقال: "بطبيعة الحال، أثار هذا الأمر ضجة في العالم وفي الولايات المتحدة، لأن كثيرين يدركون خطورة هذه الخطوة، وخطر استئناف التجارب النووية التي لم تُجرَ منذ أوائل التسعينيات. وأن هذا قد يؤدي إلى تصعيد جديد وجولة أخرى من سباق التسلح، وعواقب لا يمكن التنبؤ بها عمومًا. لكننا نراقب ونراقب".
وبدوره وجّه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في الخامس من تشرين الثاني وزارتي الخارجية والدفاع وأجهزة الاستخبارات والهيئات المدنية لتقديم مقترحات بشأن إمكانية بدء الاستعدادات لتجارب الأسلحة النووية. وأوضح أن روسيا مستعدة لاتخاذ الإجراءات المناسبة في حال إجراء الولايات المتحدة تجربة نووية.
وصرح وزير الدفاع بيلوسوف، ورئيس الأركان العامة جيراسيموف، ورؤساء هيئات أخرى مرموقة خلال الاجتماع، بأن تصريحات كبار المسؤولين في الولايات المتحدة، بل وممارساتها أيضًا، ترفع بصورة كبيرة من مستوى الخطر العسكري على روسيا. ودعوا إلى الاستعداد الفوري لإجراء تجارب نووية شاملة لتجنب إضاعة الوقت في الرد الفوري على تحركات أيّ عدوٍ محتمل. من جانبه، أكد الرئيس بوتين أن روسيا ملتزمة التزامًا صارمًا بتعهداتها بموجب معاهدة حظر التجارب النووية، وليس لديها أي نية للتراجع عنها. وتؤكد تعليماته أن ردّ فعل القيادة العليا الروسية متحفظ نسبيًا، ولديها رغبة في إبقاء "نافذة فرصة" مفتوحة لتهدئة التوترات النووية.
كما لفت أنظار الرأي العام العالمي إعلان موسكو عن إجراء التجارب الناجحة لأسلحة روسية جديدة، لافتةً الأنظار إلى تطوير التكنولوجيا النووية. ويشير أناتولي غليانتسيف، كاتب عمود العلوم في مجلة فوربس، إلى أن المفاعلات النووية المحتملة على متن بوريفيستنيك وبوسيدون قد تصبح مصادر طاقة فعالة وآمنة. وبوريفيستنيك صاروخ، وبوسيدون طوربيد، وكلاهما يعمل بمحركات نووية، مما يوفر مدىً غير محدود تقريبًا. لا يُعرف عنهما الكثير. فعلى سبيل المثال، مداهما غير محدود، إذ يُمكنهما الدوران حول الأرض عدة مرات بفضل نظام الدفع النووي الخاص بهما. كما يُمكّنهما نظام الملاحة والتحكم الخاص بهما من اختراق أيّ نظام دفاع صاروخي.
ولا يتطلب صاروخ بوريفيستنيك مركبات إطلاق خاصة، مما يجعله ليس مجرد سلاح جديد، بل نظامًا فريدًا من نوعه. ووفقًا للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، فإن مفاعل بوريفيستنيك أصغر بألف مرة من مفاعل الغواصة النووية، بينما مفاعل بوسيدون أصغر بمئة مرة. وبينما يمكن تشغيل المفاعل النووي التقليدي في غضون أيام أو أسابيع، يُفترض أن تكون المفاعلات الجديدة قادرة على التشغيل في دقائق أو ثوانٍ.
وفيما يطرح سؤالٌ مشروع عقب ذلك التطور المفاجئ بصدد: هل إن موسكو وواشنطن تهددان بعضهما البعض حاليًا بالأسلحة النووية؟ يتفادى خبراء نوويون استخدام هذا الاستنتاج المتطرف. بيد أنهم يشيرون إلى حقيقة أن ترامب لا يتردد في استخدام العبارات والتصريحات التي لم يَسُغْ لرؤساء أمريكيين سابقين لأنفسهم إطلاقها. ويلاحظ آخرون أن هراوة الأسلحة النووية من دون شك قد عادت بقوة إلى أجواء علاقات القوى العظمى، وزاد دورها في العقيدة العسكرية بشكل ملحوظ.
وحقًا إذا لم تُمدد قيود معاهدة ستارت الجديدة التي اقترح الرئيس فلاديمير بوتين على الولايات المتحدة أن تبقى سارية المفعول لعام آخر بعد انتهاء إطارها الزمني قريبًا، وإذا بدأت التجارب النووية، وانهارت معاهدة حظر الانتشار النووي، فإن معاهدة حظر الانتشار النووي، إلى جانب جميع الاتفاقيات والمعايير المتبقية في هذا المجال، ستتفكك بسرعة. قريبًا لن يكون هناك تسع دول نووية، بل 15-20 دولة، وستنشأ صراعات تنطوي على ضربات نووية، وستقع هذه الأسلحة في أيدي الإرهابيين، وستنشأ فوضى نووية عالمية. بالقضاء على التهديد النووي نتراجع بشكل لا رجعة فيه لعدة عقود. لقد حان الوقت لوقف هذه العملية المدمرة والبدء فورًا في استعادة نظام الحد من الأسلحة النووية.
ويتفق الخبراء الآن على أن تصريحات واشنطن وموسكو لا تعني أن الانفجارات ستبدأ غدًا. صحيح أن الولايات المتحدة تُجري منذ فترة طويلة ما يُسمى بالتجارب دون الحرجة. تتيح هذه التجارب للعلماء دراسة سلوك المواد النووية (غالبًا البلوتونيوم) مع المتفجرات شديدة الانفجار، محاكيةً المرحلة التي تسبق الانشطار في الرأس الحربي، ويكمن الاختلاف الجوهري عن التجارب واسعة النطاق في أن هذه التجارب لا تُشكل كتلة حرجة ولا تُطلق تفاعلًا متسلسلًا ذاتيًا، ونتيجةً لذلك لا يحدث انفجار نووي. ومع ذلك، فإن هذه التجارب والتجارب واسعة النطاق أمران مختلفان تمامًا.
ويظل موقع تجارب نيفادا هو الأكثر احتمالًا حيث يُمكن للولايات المتحدة إجراء تجارب واسعة النطاق. بلغت 928 تجربة نووية بين عامي 1951 و1992، بما في ذلك 828 تجربة تحت الأرض. وعلى الرغم من مرور أكثر من 30 عامًا على الانفجار الأخير، إلا أن البنية التحتية لموقع التجارب لا تزال سليمة. ويشمل الموقع عشرات المداخل ومحطات المراقبة والأنفاق التي يبلغ عمقها مئات الأمتار. تم إيقاف تشغيل المنشأة، ولكن من الممكن إعادة تشغيلها. ومع ذلك، فإن هذه العملية تستغرق وقتًا طويلًا للغاية، إذ يقدّر الخبراء أن تجهيز موقع الاختبار بالكامل سيستغرق من 24 إلى 36 شهرًا. ويشير الخبراء أيضًا إلى أن آخر الاختبارات الشاملة أُجريت في عصر التقنيات "التناظرية"، لذا سيواجه استئناف الاختبارات عددًا من التحديات الجسيمة. فعمليات الحفر وحفر الأنفاق، ونشر شبكة قياس، واستخدام أجهزة عالية الدقة، كلها أمور ضرورية، وهي تتطلب رأس مال ضخمًا وتستغرق وقتًا طويلًا. كما أن هناك مشكلة تتعلق بالكوادر البشرية، إذ إن جيل المهندسين والفنيين الذين عملوا خلال فترة الاختبارات قد رحل، مما يتطلب تدريب متخصصين جدد. علاوة على ذلك، ستكون هناك حاجة إلى موافقات قانونية وسياسية، وتقييمات بيئية، وتصاريح محلية، إذ إن أيّ انفجار تحت الأرض ينطوي على أخطار التلوث والآثار الزلزالية، والتي يجب الحد منها وشرحها للجمهور.
من جهة أخرى فإن روسيا - وعلى عكس الولايات المتحدة - لا تحتاج إلى أشهر عديدة لإجراء تجارب نووية في إقليم نوفايا زيمليا (الأرض الجديدة) غير المأهول.









