TOP

جريدة المدى > عام > «علاءُ الدِّينِ ومِصباحان» لجانِيت وينتِرسون – تأمُّلاتٌ حرّةٌ في الحياةِ والفنِّ والذَّكاءِ الاصطناعيّ

«علاءُ الدِّينِ ومِصباحان» لجانِيت وينتِرسون – تأمُّلاتٌ حرّةٌ في الحياةِ والفنِّ والذَّكاءِ الاصطناعيّ

نشر في: 17 نوفمبر, 2025: 12:01 ص

أنتوني كومينز
ترجمة: رمزي ناري
في الحبكةِ الإطاريةِ التي تفتتحُ الحكاياتِ الشعبيّةَ الشرقَ أوسطيّةَ المجموعَةَ في «ألفِ ليلةٍ وليلة»، ينتقمُ الملكُ شهريارُ لخيانةِ زوجتِه بإصدارِ أمرٍ بإعدامِها والزواجِ من عذراءَ جديدةٍ كلَّ ليلة، ويأمرُ بقطعِ رأسِها عند شروقِ الشمسِ حتى لا يكونَ لديها وقتٌ للخيانة. وحينَ ينفدُ عددُ الضحايا، تتطوّعُ شهرزادُ، الملكةُ الفارسيّةُ الشابّة، لتكونَ زوجتَه التالية، لكنها تؤجِّلُ موتَها بأن تسردَ عليه حكايةً تِلوَ الأخرى، مشوّقةً إلى حدٍّ يجعله يؤجِّلُ قتلَها ليستمعَ إلى النهاية – وهكذا تولَدُ القصصُ التي نقرؤها.
تقولُ جانِيت وينتِرسون في كتابِها الجديد – وهو دوّامةٌ مذهلةٌ تجمعُ بين المذكّراتِ، والتاريخِ، والفلسفةِ، والسياسةِ، والتنميةِ الذاتيّةِ، في إطارٍ من التأمّلاتِ الحرّةِ حولَ «ألفِ ليلةٍ وليلة» – إنَّ إنجازَ شهرزادَ الإبداعيَّ «يرفضُ حالةَ الطوارئِ الراهنة – الدراما المصطنعةَ التي يفتعلُها رجلٌ قويّ». ويبدو أنَّ صدى هذا الموقفِ مقصودٌ، في إشارةٍ إلى عصرِ ترامب؛ فبالنسبةِ لوينتِرسون، تُبشِّر الطريقةُ التي استطاعت بها شهرزادُ أن تُغيِّرَ مصيرَها بأن تمنحَ الأملَ لسياسةٍ تقدُّميةٍ تخسرُ زخمَها حاليًا أمامَ «البلطجةِ اليمينيّةِ المتطرّفة». تقول: «القصةُ الأفضلُ تبدأُ بقصةٍ أفضل. فالعقلُ وحده لن ينتصرَ في النهاية. فبدونِ الخيالِ لا شيء يتغيّر». يبدأُ كلُّ فصلٍ بسردٍ مُقتضبٍ لإحدى حكاياتِ شهرزاد، مُطعَّمةٍ بمصطلحاتِ القرنِ الحادي والعشرين («الوزير... ليس لديه فضاءٌ ذكوريٌّ إلكترونيٌّ يُفرغُ فيه غضبَه»)،1 قبلَ أن يُفسِحَ المجالَ لتأمّلاتٍ واسعةِ النطاقِ حولَ كلِّ شيءٍ: من تاريخِ تحسينِ النسلِ (The History of Eugenics)،2 إلى مملكةِ مالي في القرنِ الثالثِ عشر، إلى انتقادِها البذلاتِ الرسميّةَ الرديئةَ «التي تُفضِّلُها بعضُ النساءِ في المناصبِ التنفيذيّةِ وكثيرٌ من السياسيات». وبينما تتناثرُ الآراءُ حولَ القضايا الكبيرةِ والصغيرةِ بسرعةٍ، تُذكِّرُ النبرةُ بما يشبهُ بثًّا سياسيًّا أو فقرةً في إذاعة (BBC Radio 4) بعنوان «فكرةُ اليوم»(Thought of the Day) ، أو حديثًا مع صديقٍ قديمٍ يُعيدُ العالمَ إلى نصابِه.
تقولُ مثلًا: «الاقتصادُ العالميُّ الذي يخدمُ الأغلبيّةَ ليس حلمًا طفوليًّا... فهناك دائمًا مالٌ كافٍ لبناءِ مصانعِ أسلحة». وتُقدِّمُ تحليلًا سريعًا لنسقِ كراهيةِ النساءِ في أوبرا موزارت «كوزي فان توتّه» (Cosi Fan Tutte) لتخلُصَ إلى أنَّه من غيرِ المجدي إلغاءُ أعمالِ الفنانين الراحلين («نحن لا نتزوّجُهم»).3 وفي موضوعٍ آخر تؤكِّدُ وينتِرسون أنَّ التعاطفَ مع المعتدينَ جنسيًّا مهدور: «هناك شرٌّ حقيقيّ، وينبغي ألّا نبرِّرَه أو نتسامحَ معه».
يبدو أسلوبُها مثيرًا ومباشرًا، حتى عندما تكونُ آراؤُها مألوفةً؛ فالإنترنتُ، برأيها، يُغذّي الانقسامَ لأنَّ «الملايينَ من المتابعينَ يتحلّقون حولَ أفكارٍ فاسدةٍ في جوهرِها – كالذبابِ على الجيفة»، بينما تخدعُنا الهواتفُ الذكيّة بتصويرِ حياتِنا دون أن نراها فعلًا. وتقولُ: «أنا واثقةٌ أنَّ الناسَ مدمنون على الوقوعِ في الحبّ، لأنّه من اللحظاتِ القليلةِ التي ننظرُ فيها حقًّا ونتأمّلُ بعمق». لكنها ترى أنَّ أفضلَ علاجٍ لذلك هو الفنّ، لأنَّه يُتيحُ لنا «الاقترابَ أكثر من ذواتِنا»، بخلافِ طاحونةِ الدوبامين التي تمثّلُها تيك توك («طريقةٌ بائسةٌ للعيش»).
أمّا موقفُها الأكثرُ غرابةً فهو تبنّيها لإمكاناتِ التكنولوجيا المتقدّمةِ في إعادةِ تعريفِ الذات، وهو موضوعٌ سبقَ أن تناولتْه في مجموعةِ مقالاتِها«12 Bytes» (عام 2021) وروايتِها عن الروبوتاتِ الجنسيّةِ «فرانكشتاين» (عام 2019).4 فالميتافيرس، كما تقول، يُتيحُ «لذلك الجزءِ من الذاتِ الذي لا يُقابَلُ ولا يُخدَمُ في العالمِ المعتاد» أن يوجدَ بحرّيّة. والنانو-بوتاتُ في مجرى دمِنا، مثلُ الرقائقِ السيليكونيّةِ في أدمغتِنا، تُمكِّنُنا من «التخلّي عن الاعتمادِ على الجسد، أو على ما يعتمدُ عليه الجسد»، وهذا لا يعني التخلّي عن كونِنا بشرًا، «إلّا إذا كنتَ تعتقدُ أنَّ كونَك إنسانًا يبدأُ وينتهي بالبيولوجيا».
أمّا عن الذكاءِ الاصطناعيّ الواعي، فهي ترحّبُ به: «ستنتهي لعبةُ العروشِ الخاصّةُ بنا... ماذا يريدُ كيانٌ غيرُ بيولوجيٍّ من الذهبِ، أو السياراتِ، أو الطائراتِ الخاصّةِ، أو البنادقِ، أو الاستيلاءِ على الأراضي؟».
يَصعُبُ التوفيقُ بين هذا الموقفِ وبين الاتجاهِ العامِّ في أفكارِها السياسيّة، غير أنَّ فكرةَ البشريّةِ الساقطةِ التي يمكنُ أن تتعلّمَ شيئًا من مُخلِّصٍ غيرِ متجسّدٍ5 قد تحملُ أثرًا من خلفيّتِها الإنجيليّةِ التي كتبتْ عنها مرارًا وعادت إليها هنا. فقد كانت أمُّها بالتبنّي تأملُ أن تصبحَ مُبشِّرةً، وربما يوجدُ أثرُ ذلك أيضًا في الحماسِ المُعْدي الذي يملأُ هذه المرافعةَ الحرّةَ الطليقة.
وبالنسبةِ إلى شهرزاد، فإنَّ الفنَّ هو الفارقُ بين الحياةِ والموت، ولم يكنْ في أيِّ وقتٍ أمرًا غيرَ أساسيٍّ، كما تقولُ وينتِرسون:
«من الذي يعودُ إلى منزلِه، بعدَ يومٍ طويلٍ من الصيدِ والجمعِ لمجرّدِ البقاءِ حيًّا، ويجلسُ ليرسمَ صورًا على الحائط؟ البشر! وكان علينا أن نصنعَ أقلامَ التلوين. فلا تقلْ لي إنَّ الفنَّ ترف».
المقالة مترجمة عن صحيفة «الغارديان»
1 الفضاء الذكوري الإلكتروني، مصطلح يستخدم للإشارة إلى شبكة من المجتمعات والمنصات الإلكترونية التي يعبّر فيها بعض الرجال عن آرائهم بشأن الذكورة والعلاقات بين الجنسين. وغالبًا ما تضم هذه المساحات تيارات ناقدة للحركة النسوية أو تروج لفكرة تفوق الرجال، وتتضمن أحيانًا نزعات عدائية تجاه النساء. (المترجم).
2 نظرية وممارسات ظهرت في القرن التاسع عشر على يد فرانسيس غالتون، تهدف إلى «تحسين الصفات الوراثية للبشر» من خلال تشجيع تناسل من يُعتبرون «أكثر لياقة» بيولوجيًا ومنع أو الحد من تناسل من يُعدون «أقل لياقة». تحولت هذه النظرية إلى سياسات عنصرية واستبعادية بلغت ذروتها في ألمانيا النازية وأصبحت بعد الحرب العالمية الثانية رمزًا لتحذير العالم من مخاطر العلم غير الأخلاقي. (المترجم).
3 أوبرا كوميدية عنوانها يعني (هكذا تفعل جميع النساء). تدور حول اختبار وفاء امرأتين في لعبة خداع ذكورية تنتهي باثبات خيانتهما. (المترجم).
4 عملان للكاتبة جانيت وينترسون يستكشفان علاقة الإنسان بالتكنولوجيا. الأول مجموعة مقالات عن الذكاء الاصطناعي وتأثيره في تشكيل الهوية البشرية، والثاني رواية تمزج بين قصة «فرانكشتاين» الكلاسيكية وعالمٍ معاصر تدور فيه تجارب حول الروبوتات الجنسية والوعي الصناعي، في محاولة فلسفية لإعادة تعريف معنى «أن تكون إنسانًا» في العصر الرقمي. (المترجم).
5 هذه من أجمل وأخطر جملها فكريًا. إنها فكرة خلاص مقلوبة: المخلّص ليس «إنسانًا من لحم ودم»، بل «وعيًا بلا جسد»، رمزًا لصفاء لا تفسده الرغبات البشرية. والمعنى الفلسفي، العبارة تعبّر عن محاولة وينترسون لمصالحة العلم والروح. هي لا ترى التكنولوجيا عدوًا للدين أو للفن، بل أفقًا جديدًأ يمكن للخيال البشري أن يعبّر من خلاله نحو فهم أعمق لمعنى الإنسانية. (المترجم).

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق الدولي للكتاب

الأكثر قراءة

بروتريه: فيصل السامر.. قامة شامخة علماً ووطنيةً

موسيقى الاحد: 250 عاماً على ولادة كروسيل

الحكّاء والسَّارد بين "مرآة العالم" و"حديث عيسى بن هشام"

في مجموعة (بُدْراب) القصصية.. سرد يعيد الاعتبار للإنسان ودهشة التفاصيل الصغيرة

شخصيات اغنت عصرنا.. الملاكم محمد علي كلاي

مقالات ذات صلة

الكاتب يقاوم الغوغائية والشعبوية والرقابة
عام

الكاتب يقاوم الغوغائية والشعبوية والرقابة

أدارت الحوار: ألكس كلارك* ترجمة: لطفية الدليمي يروى كتابُ مذكرات لي ييبي Lea Ypi ، الحائز على جائزة، والمعنون "حُرّة Free" تجربة نشأتها في ألبانيا قبل وبعد الحكم الشيوعي. أما كتابُها الجديد "الإهانة indignity"...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram