ستار كاووش
ثلاث ساعات بالقطار كانت كافية للوصول من شمال هولندا الى مدينة كولن الألمانية. هي ثلاث ساعات فقط، لكنها كانت كفيلة أيضاً بنقلي من عالم الى آخر. ترجلتُ عند محطة كولن وسحبتُ حقيبتي بهدوء وسط زحام الناس الذين كانوا ينتظرون أصدقاءهم ومعارفهم، فيما أنا كان بإنتظاري رذاذ المطر الخفيف خارج المحطة. وبما أني كنتُ قد تفحصت خارطة المدينة وشوارعها قبل وصولي، لذا إستطعتُ أن أقطع بعض الشوارع الصغيرة بسرعة حتى وصلت الى ساحة السوق الجديد، وهناك ظهرت البناية التي اقصدها، فصعدتُ الى الطابق الخامس، حيث يقع الاستوديو الذي استأجرته من شاب ألماني يدعى أوتو. وما أن صرتُ في الداخل، حتى إنتبهتُ إلى أنه قد تركَ لي في طبق صغير قرب ماكنة القهوة بضعة أقراص من قهوة الاسبريسو، فوضعتُ حقيبتي جانباً وأحضرت قدح قهوة على عجل، ورتبت بعض التفاصيل، ثم إنطلقتُ في جولة لإكتشاف هذه المدينة الجميلة.
مازالت الأرصفة وحتى الأحجار التي رصفت بها ساحة السوق مبللة رغم توقف المطر، فمضيتُ في طريقي كأني أسير فوق مرآة مبللة تعكس أشكال البنايات والناس. كان هدفي هو زيارة الكاتدرائية العملاقة التي تنتصب وسط المدينة كحارس أبدي، لكني أعرف أن مفاجئات الطريق كثيرة، وهي تشبه لعبة البولينغ، التي كلما حاولتَ أن تنالَ فيها هدفاً، فتُصيبَ هدفاً آخر. لذا أكملتُ طريقي، تاركاً نفسي منفتحة على كل الاحتمالات ونظراتي مفتوحة على كل الطرقات. لكن ما أن هممتُ بالانعطاف يميناً نحو شارع بورخماور والذي يعني (جدار القلعة) حتى لمحتُ في الجانب الآخر من الشارع نصباً غريب الشكل، بدا لأول وهلة عابراً لا يُثير انتباه المارة، بهيئة كتلتين حجريّتين تأخذان شكل جدارين صغيرين متوازيين كأنهما بقايا بوابة حجرية وسط الطريق، فعبرتُ الشارع لمعرفة التفاصيل التي تقف خلف هذه الكتلة. المدن الحية عموماً لا توضع فيها الأشياء بالمصادفة، ولا تحتضن التماثيل والآثار الفنية عفو الخاطر، وهنا عليك أن تتجلد أزاء انطباعك الأول، وتقترب من الأشياء التي تُثير إهتمامك كي تتفحص التفاصيل. لا تتردد بالمحاولة والتمعن بالأشكال التي تظهر أمامك هنا وهناك، فهذا هو جمال السفر والاكتشاف والتعلم الممزوج بالمغامرة. مع ذلك لا تنتظر أن تتوصل بسهولة الى شيئ مهم. لكن من حسن حظي فقد تعرفتُ على هذا العمل ما أن إقتربت منه أكثر، فقد شاهدتُ نسختين مشابهتين تماماً له في هولندا، بمدينتَي ماستريخت ونايميخن، وها أنا أقف بالمصادفة أمام العمل الثالث في مدينة كولن الألمانية. فما هي حكاية هذا النصب ولماذا يتوزع هكذا في مدن متباعدة؟
هذا العمل من إبداع النحات البلجيكي راف فيرخانس (1935-2022) والذي أنجزَ منه سنة 1986 عشر نسخ توزعتْ على عشر مدن في بلدان مختلفة كانت تابعة للإمبراطورية الرومانية قبل ألفين سنة تقريباً، وهي تونغرين وكولونيا وروما وأرجون وتورناي وبافاي ومتز وماستريخت وهيرلين ونايميخن، حيث تسمى هذه المدن بالمدن الشقيقة. وكانت النسخة الأولى من نصيب مدينة تونغيرين البلجيكية التي احتفلت وقت إنجاز النصب بعيد تأسيسها الألفين.
حين تقف بين كتلتي هذا العمل سترى كيف أن أحداها تظهر عليها الشخصيات من الأمام بطريقة النحت البارز، فيما الكتلة الأخرى قد بدتْ فيها الشخصيات من الخلف وبطريقة النحت الغائر، وفي الحقيقة فإن الشخصيات هي ذاتها الموجودة في الكتلتين، حيث يمكنك أن تتخيلها وهي تتداخل مع بعضها مثل قالب الكعك. وهكذا تشعر بأن الشخصيات في أحد الجوانب تمضي بعيداً، فيما الشخصيات التي على الجدار الآخر على وشك الإقتراب منك، وما يؤكد هذا الإحساس هو ان المنحوتات قد نُفِّذَتْ بالحجم الطبيعي، وما عليك هنا سوى أن تتخيل إقتراب الجدارين أو الكتلتين من بعضهما أكثر حتى يتلاصقان ويتداخلان مع بعضهما تماماً. وهكذا فالحركة هي أساس فكرة هذا العمل، الذهاب والاياب، الناس تمضي وتذهب جيلاً بعد جيل، فيما المدن باقية آلاف السنين مثل هذه المدن العشر التي بناها الرومان، وهنا تُكمن فلسفة هذا العمل ورمزيته والرسالة التي يريد أن يوصلها الى المشاهد.
يُشير العمل ايضاً الى التكامل والإختلاف من خلال الزمان والمكان والحركة، كذلك يستثمر الفراغ بشكل مذهل ومؤثر، فكما أن هناك كتلتان كبيرتان تقفان بمواجهة بعضهما، لكن هناك أيضاً وحدة مدهشة وتكامل جذاب في هذا العمل الذي تم إنشاءه بواسطة الخرسانة، وكل جدار بحجم ثلاثة أمتار عرضاً، ومترين ونصف أرتفاعاً، وبِسُمكِ ستين سنتمتر، ووزن العمل الكلي ستة عشر طناً. وهذا النوع من الأعمال يصنع أولاً من الطين، ثم يتم صبه كقالب بواسطة البوليستر، ليتم بعدها تنفيذه بواسطة الخرسانة. وكانت المراحل النهائية لهذا العمل قد تمت فى الشارع ذاته، حيث أُزيلتْ القوالب وسط تجمع سكان المدينة صحبة الموسيقى والاحتفالات.
بقى أن نقول أن الفنان راف فيرخانس متخصص أيضاً في صياغة المجوهرات والذهب والرسم والموسيقى وكتابة القصائد. وقد اهتمّ في بداياته بصنع الشمعدانات والكؤوس وأواني القربان والديكورات الداخلية لبعض الكنائس. وبسبب عمله في صناعة المجوهرات، فقد أصبحت الحرفية محور كل أعماله، كذلك كان لا يتوانى من تنفيذ أعماله بكل ماهو مُتاح من مواد، ومن خلال ذلك استطاع التعبير عن رؤيته الفنية التي تتركز حول الحياة والموت والفراغ وتكامل الأشكال وعلاقات الناس.
ودعتُ خلفي هذا العمل المختلف، ومضيتُ بجانب بقايا جدار روماني ضخم ما زال يربض منذ ألفين سنة، والذي أخذ منه الشارع اسمه. أكملتُ طريقي أفكر بذلك المجد البعيد للمدن حتى سمعت صوت ماء يتساقط، فظننتُ بأن المطر قد بدء نوبته الجديدة، لكنه كان صوت واحدة من النافورات القديمة التي إنتشرت على جدرانها ريليفات تماثيل حجرية بدتْ عليها بصمات الزمن. فتوقفتُ عندها قليلاً ثم أكملتُ طريقي بين المارة بإتجاه كاتدرائية الدوم التي ستكون لها حكاية أخرى.










