محمد علي الحيدري
باتت التجربة العراقية، عبر دورات انتخابية متعاقبة، تؤكّد معادلة ثابتة تكاد تُختصر بجملة واحدة: رئيس الوزراء الأكثر حظاً ليس صاحب الكتلة الأكبر، ولا زعيم القائمة التي تتصدّر النتائج، بل هو «مرشّح التسوية» الذي يُستدعى من خارج صخب التنافس بعد أن تبلغ الخصومة بين القوى السياسية مرحلة كسر العظم.
في كل استحقاق، يتكرّر المشهد ذاته: يتنازع القادة على المنصب الأول في السلطة التنفيذية، وتُستهلك الأسابيع ثم الشهور من دون أن تُنتج هذه الجولات الماراثونية سوى مزيد من التوتر. ومع اتساع الهوّة وارتفاع منسوب الانسداد، تتسع شبكات التسقيط السياسي المتبادل. فيتحوّل كل زعيم كتلة إلى ماكينة لتقويض منافسه، مستعيناً بترسانة واسعة تمتد من كشف الأخطاء وتضخيمها، إلى مراجعة السجلات القديمة، وتشريح الأداء والإدارة، واتهامات الفساد أو الفشل أو التفرّد، في مسلسل يستهلك البلاد أكثر مما يستهلك المتنافسين أنفسهم.
وفيما تتصاعد الجلبة السياسية، يواصل البلد إدارة شؤونه عبر حكومة تصريف أعمال محدودة الصلاحيات، عاجزة عن المبادرة، وأسيرة الانتظار. وهكذا تتحول الفجوة بين الانتخابات وتشكيل الحكومة إلى مساحة للعطالة السياسية، تختزن فيها الأزمات بدلاً من أن تُعالَج، وتتكدّس الملفات بلا قرار ولا رؤية. وحين تقترب الأطراف من لحظة الحقيقة، تكتشف جميعها أن أحداً منها لا يستطيع الانتصار على الآخر كاملاً، ولا إقصاءه نهائياً. عندها فقط يُستدعى «مرشّح التسوية» ــ ذاك الاسم الذي لم يكن مطروحاً في القائمة الأولى ولا الثانية، لكنه يصبح فجأة خيار الإنقاذ الوحيد، والممر الإلزامي للخروج من المأزق. وبذلك، يتحول الانسداد إلى بوابة لإنتاج رئيس وزراء لا يمثّل غالباً قوة محدّدة بقدر ما يمثّل رغبة جماعية في إطفاء الحريق. الخطر في هذه الظاهرة لا يكمن في شخصيات مرشحي التسوية بالضرورة، بل في تكريس نموذج تفاوضي عقيم يجعل التوافق نتاج إنهاك لا نتاج رؤية، ويحوّل الاستحقاق الدستوري إلى لعبة عضّ أصابع تُستنزف فيها الدولة بينما تتنافس القوى على النفوذ. وإذا كان هذا النمط قد تكرّر في أكثر من دورة، فإن استمراره يعني أننا مقبلون، عاجلاً أو آجلاً، على نسخة جديدة من السيناريو ذاته، بمرشح تسوية جديد، ووقت ضائع جديد، وحكومة تُولد من رحم أزمة لا من رحم عملية سياسية ناضجة.
ولعل السؤال الذي ينبغي أن يُطرح اليوم، بجدّية لا بروتوكولية، هو الآتي: هل يمكن للعراق أن يخرج من دائرة التسويات الاضطرارية نحو حكومات تُنتجها إرادة انتخابية واضحة وبرامج سياسية قابلة للتنفيذ؟ أم أن دورة الانسداد ستظلّ آلية شبه دائمة لإنتاج السلطة، تُعيد نفسها في كل موسم انتخابي؟
إن الإجابة الحقيقية ليست في خريطة التحالفات فقط، بل في القدرة على تحويل المنافسة من صراع إلغاء إلى سباق برامج، ومن نزاع أفراد إلى مفاوضة مؤسسات. فحين تنضج السياسة، تتراجع الحاجة إلى "مرشّح تسوية" يُسعف اللحظة الأخيرة، وتظهر بدلاً منه حكومة تعكس خياراً وطنياً لا مجرد هدنة بين المتخاصمين.










