TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > تحالف القضية الإيزيدية: خطوة أولى نحو تحالف وطني يتجاوز المكوناتية

تحالف القضية الإيزيدية: خطوة أولى نحو تحالف وطني يتجاوز المكوناتية

نشر في: 18 نوفمبر, 2025: 12:04 ص

سعد سلوم

هل يمثّل فوز تحالف القضية الإيزيدية ولادة قوة سياسية جديدة للأقليات في العراق؟ وهل نجح الإيزيديون، عبر هذه التجربة، في إعادة تعريف التمثيل السياسي الذي ظل لعقود حبيس الكوتا والتجاذبات الحزبية؟ وهل يمكن أن تلحق بقية الأقليات بهذه القاطرة التي قد تعيد تشكيل مستقبل حضورهم في الدولة؟
أسئلة كبرى تفرض نفسها اليوم بين سنجار وبغداد، حيث يبرز التحالف الإيزيدي كتجربة غير مسبوقة غيّرت معادلة التمثيل السياسي للأقليات، وفتحت الباب أمام لحظة قد تتحول إلى محطة مفصلية إذا أحسن التيار المدني والقوى الإصلاحية استثمارها.
فالفوز الذي حققه التحالف لا يختتم مسارًا، بل يفتتح تحديًا جديدًا: ماذا بعد الكوتا؟ وكيف يمكن تحويل هذا الإنجاز من انتصار انتخابي إلى مشروع سياسي عابر للهويات، يعيد صياغة علاقة الأقليات بالدولة؟
لقد جاء صعود تحالف القضية الإيزيدية كواحدة من أبرز محطات الانتخابات الأخيرة، ليس لأنه تحالف ناشئ فحسب، بل لأنه يعكس نضجًا سياسيًا متناميًا داخل المجتمع الإيزيدي منذ مأساة الإبادة الجماعية عام 2014. فقد نجح التحالف، الذي ضم 31 مرشحًا من خلفيات متنوّعة، في توحيد قاعدة واسعة من الناخبين حول خطاب يقوم على استقلالية القرار والدفاع المباشر عن المصالح الإيزيدية بعيدًا عن استقطابات القوى الكبرى، ليعلن بذلك بداية مرحلة سياسية جديدة قد تتجاوز حدود المكوّن إلى الفضاء الوطني الأوسع.
المشهد الانتخابي في نينوى لم يكن سهلًا بأي حال. فالمحافظة التي تضم أكثر من مليوني ناخب وتعد واحدة من أكثر المحافظات تنافسًا، شهدت دخول أكثر من ألف مرشح يتنافسون على 34 مقعدًا، إضافة إلى نفوذ قوي للحزب الديمقراطي الكردستاني الذي حصد في انتخابات 2021 أكثر من 136 ألف صوت ضمن المحافظة. أما سنجار نفسها، فقد عانت سابقًا من أدنى نسبة مشاركة انتخابية في نينوى بلغت 30% فقط، ما جعل إمكانية بناء كتلة أصوات إيزيدية خالصة تحديًا معقدًا في ظل التشتت السكاني والنزوح المستمر.
لذا، يشكّل فوز تحالف القضية الإيزيدية منعطفًا سياسيًا بارزًا ليس فقط في تاريخ الإيزيديين، بل في المشهد السياسي لمحافظة نينوى والعراق عمومًا. فهذا التحالف الذي نشأ للمرة الأولى كتجربة سياسية إيزيدية خالصة، استطاع أن يحقق اختراقًا حقيقيًا في بيئة انتخابية شديدة التعقيد، وأن يقدّم نموذجًا جديدًا في التمثيل خارج حدود الكوتا الضيقة التي حاصرت الصوت الإيزيدي طوال عقدين، وكانت مرتبطة تاريخيا بتدخلات الأحزاب الكبرى وتصويت ناخبين من خارج المكوّن.
ما يؤشر إلى انتقال الإيزيديين من موقع المتلقي للتمثيل إلى موقع صانع القرار، وقد جاء هذا المسار كردّ على إحساس متنامٍ لدى الإيزيديين بأن الكوتا بصيغتها الحالية فقدت وظيفتها التمثيلية الحقيقية، وتحولت إلى أداة صراع سياسي لا تعكس إرادة المجتمع.
نشوء التحالف لم يكن وليد ترتيبات سياسية تقليدية، بل ثمرة تجربة جماعية قاسية شكّلت وعيًا جديدًا لدى المجتمع الإيزيدي. فالإبادة الجماعية، وما رافقها من آلاف الضحايا والمختطفين ودمار سنجار، تحولت إلى مرجعية سياسية تدفع نحو بناء قيادة مستقلة قادرة على تمثيل المصلحة الجماعية، خصوصًا بعد فقدان الثقة بالقوى السياسية والأمنية التقليدية التي أخفقت في حماية المجتمع أو إعادة دمجه في الدولة.
ما يميّز التحالف أنه تجاوز منطق الوجاهة أو الرمزية، وطرح برنامجًا واضحًا يتناول ملفات جوهرية: إنهاء أزمة سنجار، إعادة النازحين، إعادة الإعمار، والتمثيل الوزاري. وهو بذلك يعيد تعريف موقع الإيزيديين داخل الدولة عبر علاقة مباشرة مع بغداد بعيدًا عن الهيمنة الحزبية، ويفتح الباب أمام إعادة نقاش قانون الكوتا بما يضمن تمثيلًا حقيقيًا وفاعلًا.
الأهمية الأبعد من الفوز تكمن في دلالاته المستقبلية. فوجود كتلة إيزيدية نابعة من قرار مجتمعي يضع أساسًا جديدًا للصراع على مستقبل سنجار، ويمنح الإيزيديين قدرة تفاوضية غير مسبوقة في الملفات الأمنية والإدارية والإنسانية. كما يضع حدًا لاحتمالات تغييب التمثيل الإيزيدي أو مصادرته من خارج المكوّن، وهو ما كان ممكنًا لو فشل التحالف في اختراق المشهد.
قد يرى البعض أن فوز التحالف بمقعد واحد ليس إنجازًا كبيرًا، لكن في الواقع له دلالات أعمق: إعادة تشكيل الهوية السياسية الإيزيدية والانتقال من التمثيل التابع إلى التمثيل المستقل، وفتح الباب لمقاعد خارج الكوتا، وهو الهدف الحقيقي للتحالف في السنوات القادمة، وإعادة طرح ملف سنجار في البرلمان بقوة بما يشمل الأمن، الإدارة، عودة النازحين، وإعادة الإعمار. وكذلك إبراز الإبادة الإيزيدية كملف سياسي وحقوقي وطني، لا مجرد مأساة إنسانية، وأخيرا، توجيه رسالة لبغداد وأربيل بأن الإيزيديين قادرون على إنتاج مشروع سياسي خاص بهم.
اليوم، يقف التحالف أمام اختبار تحويل هذا الانتصار إلى مشروع سياسي مستدام. فالتحديات كبيرة، لكن لأول مرة منذ 2003 يمتلك الإيزيديون أدوات واقعية للتأثير في مؤسسات الدولة وصناعة السياسات التي تمسّ حياتهم اليومية. وهذا يجعل فوز التحالف أكثر من إنجاز انتخابي، إنه خطوة نحو بناء هوية سياسية موحدة لمجتمعٍ عاش مأساة استثنائية، ويسعى الآن إلى كتابة سرديته السياسية بيده، ورسم موقعه داخل الدولة بعيدًا عن الهيمنة التي رافقت تمثيله لعقود.
لكنّ أهمية هذه التجربة لا تقف عند حدود سنجار أو الإطار الإيزيدي، بل تفتح الباب أمام تحوّل أكبر. فنجاح التحالف يطرح سؤالًا جوهريًا: هل يمكن للأقليات أن تخرج من دائرة التمثيل الرمزي إلى موقع الفاعل السياسي الوطني؟ يبدو أن الإجابة أصبحت أقرب من أي وقت مضى. فكما شكّل التحالف نموذجًا لإعادة بناء الثقة داخل المجتمع الإيزيدي، يمكن لتجربة مماثلة أن تفتح آفاقًا جديدة للمكوّن المسيحي الذي عانى بدوره من الانقسام السياسي وهيمنة القوى الكبرى على تمثيله داخل الكوتا. وإذا ما نجح المسيحيون في توحيد صفوفهم داخل إطار وطني لا طائفي، فإنهم سيستعيدون دورهم السياسي الطبيعي، ويشكّلون كتلة فاعلة تضغط باتجاه إصلاحات حقيقية.
وتتعمّق أهمية هذا المسار إذا التقَت هذه الأطر الجديدة مع التيار المدني الإصلاحي والشباب المستقل. فالتقاء القوى المدنية مع تحالفات تمثل الأقليات يمكن أن ينتج لأول مرة كتلة وطنية عابرة للهويات، تمتلك القدرة على التأثير في تشكيل الحكومة، وطرح بديل سياسي يقوم على مكافحة الفساد وتعزيز الحكم الرشيد وإعادة بناء الثقة بين الدولة والمجتمع. مثل هذا التحالف يمكن أن يتحول إلى قوة قادرة على تمرير قوانين جوهرية، كقانون مناهضة التمييز وحماية التنوع وإصلاح النظام الانتخابي وتعزيز استقلال القضاء ودعم المجتمع المدني.
ويكمن جوهر هذا التصور في أنّ صعود تحالف القضية الإيزيدية لم يعد مجرد تعبير عن احتجاج مجتمع مكلوم، بل عن تحوّل في الوعي السياسي لدى الأقليات العراقية، وعي يدرك أن التمثيل الحقيقي لا يأتي من الكوتا وحدها، بل من بناء تحالفات وطنية واسعة تضع حقوق الإنسان والمواطنة فوق الهويات الفرعية. ومن هنا، يمكن أن يصبح التحالف خطوة أولى نحو نموذج جديد في السياسة العراقية، يقوم على الشراكة بين الأقليات والتيار المدني، ويتجاوز الانقسامات الطائفية التي حكمت البلاد لعقدين.
يقف التيار الإصلاحي والمدني في العراق اليوم أمام فرصة جديدة. فإذا استطاعت هذه القوى الوليدة ، الإيزيدية والمسيحية وممثلي الأقليات والقوى المدنية، أن تلتقي في مشروع واحد، فإنها ستخلق توازنًا جديدًا يعيد تعريف العمل السياسي، ويحوّل البرلمان من ساحة محاصصة إلى فضاء لصنع السياسات الوطنية. وهذا التحوّل، إن تحقق، سيمنح الأقليات حضورًا فاعلًا في الدولة، ويعزز مسار بناء دولة مدنية عادلة، تقوم على المواطنة المتساوية، وتحول التنوع من عبء سياسي إلى مصدر قوة وطنية.
بهذا المعنى، يصبح تحالف القضية الإيزيدية ليس نهاية لمسار من النضال، بل بداية لمشروع وطني واسع يمكن أن يعيد رسم حدود الفعل السياسي في العراق، ويمنح جميع المكونات، من الأكبر إلى الأصغر، فرصة للمشاركة في صياغة مستقبل أكثر عدالة واستقرارًا.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق الدولي للكتاب

الأكثر قراءة

العمود الثامن: نصف قرن من التفوق

البَصْرة.. لو التَّظاهرُ للماء والنَّخيل!

العمود الثامن: نون النسوة تعانق الكتاب

كلاكيت: في مديح مهند حيال في مديح شارع حيفا

التلوث البيئي في العراق على المحك: "المخاطر والتداعيات"

العمود الثامن: سياسيو الغرف المغلقة

 علي حسين في السبعينيات سحرنا صوت مطرب ضرير اسمه الشيخ امام يغني قصائد شاعر العامية المصري احمد فؤاد نجم ولازالت هذه الاغاني تشكل جزءا من الذاكرة الوطنية للمثقفين العرب، كما أنها تعد وثيقة...
علي حسين

زيارة البابا لتركيا: مكاسب أردوغان السياسية وفرص العراق الضائعة

سعد سلوم بدأ البابا ليو الرابع عشر أول رحلة خارجية له منذ انتخابه بزيارة تركيا، في خطوة رمزية ودبلوماسية تهدف إلى تعزيز الحوار بين المسلمين والمسيحيين، وتعزيز التعاون مع الطوائف المسيحية المختلفة. جاءت الزيارة...
سعد سلّوم

السردية النيوليبرالية للحكم في العراق

احمد حسن تجربة الحكم في العراق ما بعد عام 2003 صارت تتكشف يوميا مأساة انتقال نموذج مؤسسات الدولة التي كانت تتغذى على فكرة العمومية والتشاركية ومركزية الخدمات إلى كيان سياسي هزيل وضيف يتماهى مع...
احمد حسن

الموسيقى والغناء… ذاكرة الشعوب وصوت تطوّرها

عصام الياسري تُعدّ الموسيقى واحدة من أقدم اللغات التي ابتكرها الإنسان للتعبير عن ذاته وعن الجماعة التي ينتمي إليها. فمنذ فجر التاريخ، كانت الإيقاعات الأولى تصاحب طقوس الحياة: في العمل، في الاحتفالات، في الحروب،...
عصام الياسري
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram