بغداد/ علي الدليمي
يستضيف الآن "كاليـري الأورفلـي للفنون" في العاصمة الأردنية عمّان، المعرض التشكيلي المشترك تحت عنوان "تذكار"، للفنانين العراقيين "وسام جزي وحيدر فاخر". المعرض، كأول مشاركة لهما كثنائي في عمّان بعد لبنان، يعد إضافة هامة للمشهد الفني العربي، ويستحق أن يكون محطة للتأمل في العلاقة بين الفن والذاكرة والهوية.
لم يكن المعرض مجرد استعراض لأعمال فنية، بل كان حواراً بصرياً معمقاً، يلامس الذاكرة والوجدان، مقدماً رؤية فنية ثنائية الأبعاد تتجاوز حدود اللوحة لتمتد إلى أعمال نحتية، مكملة بذلك تجربة بصرية غنية بالرمزية والإيحاء.
لقد نجح الفنانان في تقديم مقاربة فنية تستند إلى "التجريد البصري التعبيري" المشبع بالرمزية، مع تنوع لافت في أحجام ومساحات الأعمال الكبيرة، ما أضفى ديناميكية على فضاء العرض.
وقد عكس الحضور النوعي، الذي ضم الجالية العراقية ومحبي الفنون من مختلف الجنسيات، التفاعل العميق مع الرسائل الإنسانية والفنية التي تحملها الأعمال، ولا سيما تلك التي تتقاطع مع الذاكرة العراقية المثقلة.
وسام جزي: تجريد المكان وإنسانية الطبيعة في أعمال الفنان وسام جزي، نلمس سعياً حثيثاً لمعالجة العلاقة بين الإنسان والطبيعة، حيث يتم مزج هذه العلاقة ضمن رؤية تجريدية تتسم بالتنوع وتأثير "المكان". ما يميز تجربته هو "تعمده" استخدام رموز وإيحاءات "مباشرة" داخل إطار التجريد.
هذا الانتقاء للرموز المباشرة، وإن كان يهدف لإضفاء "ملامح واقعية" داخل التجريد، يثير تساؤلاً نقدياً حول مدى نجاحه في الحفاظ على قوة الإيحاء التجريدي، بدلاً من الميل نحو "التوضيح المباشر". فالتجريد الناجح غالباً ما يعتمد على كثافة الرمز غير المباشر لفتح آفاق التأويل، بينما قد يؤدي الرمز المباشر إلى تضييق مساحة التفاعل الذهني مع العمل. ومع ذلك، فإن انتقاءه للألوان يخدم البعد التعبيري بنجاح، مما يخلق حالة بصرية مؤثرة. حيدر فاخر: سردية الأزمات وحنين السومريات
على الجانب الآخر، قدم الفنان "حيدر فاخر" (12) عملاً مع قطعة نحت واحدة ملونة عكست بوضوح "ما مر به العراق من أزمات وتحولات" وصولاً إلى مرحلة الاستقرار. يعتمد فاخر أسلوباً تجريدياً يمزج بين "الحكاية التاريخية واليوميات المعاشة".
العنصر الأكثر لفتاً في تجربته هو إدخال "الرموز السومرية"، خاصة في تفاصيل ملابس الشخصيات، بوصفها "استذكاراً جمعياً". هذا التوظيف للرمز السومري يمنح العمل عمقاً تاريخياً وفلسفياً، ويستدعي تاريخاً عريقاً في مواجهة زمن الأزمات، لخلق "طاقة دافئة تذكر بالسلام والحنين".
هنا، ينجح فاخر في استخدام الرمز كجسر يربط الماضي بالحاضر، محافظاً على الطابع الإيحائي للتجريد. إن هذا الاحتفاء بالسلام عبر استذكار الجذور يمثل قيمة مضافة للتجربة التشكيلية المعاصرة.
تذكار: مسك الختام وحاجة للتأمل
إن "تذكار" ليس مجرد معرض، بل هو إطلالة على صراع فني داخلي يخوضه الفنان العراقي بين سطوة الواقع المرير وضرورة الهروب إلى رحابة التجريد.
التنوع في الأحجام والامتداد إلى النحت يؤكد على نضج التجربة الفنية الثنائية. لكن النقطة الجديرة بالتأمل النقدي تكمن في المفارقة بين "رمزية جزي المباشرة" و"رمزية فاخر الموغلة في التاريخ". كلاهما يسعى لتوظيف الرمز، لكن بآليات مختلفة قد تباعد بينهما أحياناً، ما يدفع الجمهور للبحث عن الخيط الناظم للثنائية في المعرض. هذا التباين هو بحد ذاته ثراء، يؤكد أن الذاكرة العراقية متعددة الأوجه، وأن التذكار يمكن أن يُصاغ بأكثر من لغة.










