بغداد / تبارك عبد المجيد
تحولت وعود توزيع الأراضي السكنية لموظفي وزارة الكهرباء إلى أزمة مالية وأخلاقية كبيرة، بعد دفع آلاف الموظفين مبالغ طائلة على أمل الحصول على قطع أراضٍ، في حين لم تُنَفَّذ المشاريع وفق ما وعدت به الجمعية التعاونية للإسكان، بقيادة مصعب المدرس.
ووسط تأخر الإجراءات وتراكم الشكاوى، تصاعدت المخاوف من استغلال الأموال العامة، ما جعل الموظفين المتضررين يطالبون بتدخل عاجل للوزارة والجهات القضائية لاسترجاع حقوقهم.
ذكر مصدر من داخل وزارة الكهرباء أن تفاصيل القضية بدأت منذ عام 2023، حين قام مسؤول الجمعية التعاونية في وزارة الكهرباء، وبالتنسيق مع أحد المسؤولين في الوزارة، بطرح مبادرة لتخصيص قطع أراضٍ سكنية لموظفي الوزارة. تم تحديد مواقع هذه الأراضي في منطقة الكاورية 1، 2 والغزالية والخرنابات، ودُعي الموظفون للمشاركة في المشروع من خلال الجمعية التعاونية.
وبالفعل، شارك عدد كبير من الموظفين ودفع كل واحد منهم مبلغ (10 ملايين دينار عراقي) كمقدمة لحجز قطعة الأرض. استمرت الإجراءات لأكثر من سنتين، إلا أنه لم يتم تنفيذ المشروع حتى الآن، بحجة أن وزارة المالية لم تصدر الموافقة على تخصيص الأراضي.
وتبين لاحقاً أن المبالغ التي تم جمعها من الموظفين قد تم تحويلها من حساب الجمعية إلى الحسابات الشخصية لمسؤول الجمعية، المدعو (مصعب المدرس)، وهو أيضاً موظف في الوزارة.
وقدم المذكور مؤخراً طلباً للتقاعد، وفقاً للمصدر، وهناك معلومات مؤكدة تفيد بأنه ينوي السفر خارج العراق، خاصة أنه يحمل الجنسية وجواز سفر آخر.
يؤكد المصدر أنه “في حال سفره ستكون كارثة مالية حقيقية، إذ سيصعب على الموظفين استرجاع أموالهم أو محاسبته قانونياً بعد خروجه من البلاد”. وتُقدَّر الأموال المسروقة بما يعادل عشرة مليارات دينار عراقي تقريباً، إذ شارك في المشروع أكثر من ٤ آلاف موظف.
ناشد المصدر من خلال “المدى” الجهات الحكومية والقضائية، وهيئة النزاهة، ووزارة الداخلية، ووزارة الكهرباء، باتخاذ إجراءات عاجلة لمنع سفر المتهم، وفتح تحقيق رسمي في القضية، واسترجاع أموال الموظفين المتضررين.
أراضٍ غير أصولية!
في 22 تشرين الأول من العام الجاري شهدت وزارة الكهرباء حالة من التوتر داخل مبناها، بعد غياب رئيس الجمعية التعاونية للإسكان، مصعب المدرس، عن اجتماع كان من المقرر عقده مع الموظفين لمتابعة ملفات مساكنهم. وأدى غيابه إلى موجة غضب بين الموظفين، الذين وصفوا الموقف بـ”المماطلة المتعمدة”.
وبحسب مصادر مطلعة، توجه المدير العام للدائرة الإدارية، عمر سليم صالح، إلى اجتماع عاجل مع الوزير، بحضور مدير الرقابة والتدقيق وعدد من المعنيين بملف الجمعية، لبحث أزمة الموظفين المتضررين. أسفر الاجتماع عن صدور كتاب وزاري اطلعت “المدى” عليه، يقضي بـ”استقبال طلبات استرجاع الأموال من قبل الموظفين الراغبين باستعادة المبالغ المالية التي سبق دفعها للجمعية التعاونية للإسكان”، وذلك وفق العقد المبرم بين الموظف والجمعية.
وأكد الكتاب الصادر عن وزارة الكهرباء/ الدائرة الإدارية قسم الإدارة بتاريخ 23 تشرين الأول، والموقع من قبل المدير العام عمر سليم صالح، أن الوزارة ستباشر استقبال جميع طلبات الموظفين الراغبين في استرجاع أموالهم، في خطوة اعتبرها مراقبون استجابة مباشرة لمطالب الموظفين واحتواء للتوتر داخل الوزارة.
وتقول موظفة في وزارة الكهرباء، جيهان الخفاجي، إحدى المتضررات من هذا الملف، إنها دفعت قبل عامين مبلغ 10 ملايين دينار عراقي على أمل الحصول على قطعة أرض. وتضيف أن هذا الاجتماع -الذي حصل في مقر وزارة الكهرباء، وتغيب مصعب عن حضوره- ليس الأول من نوعه، بل سبقته عشرات الاجتماعات الأخرى، سواء بحضور مصعب المدرس أو غيابه، واصفة إياها بأنها “شكلية لا أكثر”، مشيرة إلى أن المدرس لم يلتزم بوعوده للوزير ولا للموظفين.
وكشفت الخفاجي عن تفاصيل ما وصفته بـ”سرقة ممنهجة” ضمن ملف توزيع الأراضي التي تديرها الجمعية التعاونية للإسكان لموظفي الوزارة، مؤكدة أن الأمر بدأ بوعود رسمية لم تُنَفَّذ.
تروي الخفاجي لـ”المدى” أن “وزارة الكهرباء، تحديداً الدائرة الإدارية، أصدرت كتاباً عُمم على كل الشركات يتضمن أن هناك قطع أراضٍ ستوزع للموظفين، شرط إرسال أسماء الراغبين، بعدها يتم المفاضلة حسب الدرجة والمنصب وعدد الأطفال. وقد تبنت الدائرة الإدارية الموضوع رسمياً من خلال أكثر من كتاب.”
وأضافت أن الأراضي تم تقسيمها بين الموظفين، حيث حصل الموظفون من الرقم 1 إلى 600 على أراضٍ في منطقة الغزالية، في حين أن الأرقام من 600 إلى حوالي 1500 كانت مخصصة لمنطقة الخرنابات، “لكن طريقة المفاضلة وكيفية التخصيص لم تكن واضحة”.
وتشير الخفاجي إلى أنها “دفعت وقتها 20 مليون دينار عن نفسها وعن أحد أبنائها العاملين في إحدى الشركات للحصول على قطعتين أرض، ومنحت الثقة بعد أن شاهدت مدير عام ومسؤولين ووكلاء دفعوا مبالغ وقدموا على الأراضي”.
وأكدت أن “كل ما يجري هو مجرد محاولات لتغطية الفشل، من خلال نشر كتب أو وثائق لإظهار أن العمل جارٍ، بينما في الحقيقة لا توجد أي موافقات رسمية من وزارة المالية”.
لكن المفاجأة كانت بعد ذلك، كما تقول: “اكتشفنا أن الموضوع وهمي بالكامل، وإن المشروع من الأساس لم يكن قائماً على أرض حقيقية أو مخصصة رسمياً ولا تمتلك موافقات أصولية، ليسحب بعدها مباشرة المدراء العامون مبالغهم”. وأشارت إلى أن الرقم “المأخوذ ضخم ومخيف، ما يقارب 1500 موظف كل واحد دفع 10 ملايين دينار عراقي فهذه 15 مليار دينار عراقي، ناهيك عن الشركات البالغ عددها حوالي 20 شركة”.
وأضافت الخفاجي أنها “طلبت مؤخراً التوسط لمفاتحة أعضاء مجلس النواب لحل الموضوع بحكم عملها الحالي في مجلس النواب، لكنهم رفضوا وقالوا لها: (خلي الموضوع، إحنا نعالجه)”.
وتشير إلى أن رئيس الجمعية، مصعب المدرس، يمتلك حالياً مجمعين سكنيين قيد الإنشاء في الفلوجة، ويحمل الجنسية الفرنسية مع عائلته، معتبرة أن “الوزارة لم تأخذ دورها القانوني بعد، رغم مطالبتها أكثر من مرة برفع دعوى على المدرس لاعتبار ما حدث هدراً للمال العام”، لكن الخفاجي قوبلت بالرد: “القانون لا يحمي المخفلين”. وتستمر المعاناة، كما تقول: “قدمت قبل ستة أشهر طلباً لاسترجاع المبلغ، وأتواصل مع مصعب بشكل مباشر، لكنه يكتفي بإعطائي وعوداً كاذبة”. توضح رواية الخفاجي حجم الإحباط والشكوى المستمرة بين موظفي وزارة الكهرباء، الذين يرون أن وعود توزيع الأراضي تحولت إلى عملية استغلال مالية على نطاق واسع، دون أي مساءلة فعلية حتى الآن.
استغلال النفوذ والمال العام!
حصلت “المدى” على نسخة من كتاب رسمي صادر عن وزارة الكهرباء، بتاريخ 24 أيلول 2023 ومؤرخ بالعدد (67767)، طالبت فيه الوزارة الشركات والدوائر التابعة بإرسال كشوفات بأسماء المنتسبين الراغبين في الحصول على أراضٍ سكنية. وجاء في نص الكتاب: “يرجى تزويد الجمعية التعاونية الإسكانية لموظفي وزارة الكهرباء بكشوفات بأسماء موظفيكم الراغبين باقتناء أرض سكنية في محافظة بغداد”.
وأفاد الكتاب أن توجيه الوزارة صادر من الدائرة الإدارية، وموقع من قبل معاون المدير العام للشؤون المالية والخدمات، رزاق هميم لازم.
وقال أحمد مظفر، أحد موظفي وزارة الكهرباء، إن ما يجري حالياً داخل الوزارة بشأن قضية الجمعية التعاونية لإسكان موظفي الكهرباء هو في حقيقته صراع بين أطراف مختلفة، وأن الموظفين باتوا هم الضحية وسط هذا الخلاف.
وأضاف مظفر لـ”المدى” أن “هناك من يقول إن الجمعية قامت بخداع الموظفين وأخذت أموالهم دون تنفيذ وعودها، في حين ترد الجمعية بأنها جهة قانونية، وأن كل موظف يمتلك عقداً مبرماً رسمياً معها، وبالتالي من حقه المطالبة باسترجاع أمواله وفقاً لبنود العقد”.
وأوضح أن الموظفين اليوم يواجهون أزمة جديدة بعد أن أعلنت الجمعية استعدادها لإعادة المبالغ، لكنها لم تلتزم فعلياً بدفعها حتى الآن، مما أدى إلى تفاقم الخلافات وانتشار حالة من الفوضى داخل مجموعات التواصل الخاصة بموظفي الوزارة، وظهور اتهامات متبادلة بين مختلف الأطراف.
وأشار مظفر إلى أن المشكلة تتعلق أيضاً بإجراءات نقل الملكية والبيع والشراء، إذ أن المشروع قُدم بطريقة تخالف قانون بيع وإيجار أموال الدولة، مؤكداً أن ما حدث يمثل استغلالاً واضحاً للمنصب والسلطة، خاصة أن بعض المبادرات تم الترويج لها في أجواء مرتبطة بالانتخابات.
وتابع مظفر حديثه بالقول: “للأسف، نحن أمام واحدة من أكثر القضايا التي تمثل نموذجاً لاستغلال النفوذ والمال العام في مؤسسات الدولة، ولا أحد حتى الآن يتحمل مسؤولية ما جرى أو يدافع عن حقوق الموظفين المتضررين”.
حاول مراسل “المدى” التواصل مع رئيس الجمعية التعاونية للإسكان، مصعب المدرس، للحصول على توضيحات رسمية بشأن القضية والرد على استفسارات الموظفين، إلا أن هاتفه ظل مغلقاً حتى لحظة إعداد هذا التقرير. وأخبر مصدر من داخل الوزارة مراسل “المدى” أن المتهم مصعب المدرس قام بتشكيل لجنة تحقيقية يوم 16 تشرين الثاني على اللجنة التحقيقية التي شُكلت لأجل التحقيق في قضيته، فيما أشار إلى أن المبلغ يُقدَّر بـ 80 مليار دينار عراقي!
وأقدم عدد من موظفي وزارة الكهرباء، في 9 تشرين الثاني الجاري، على رفع دعوى أمام قاضي محكمة الكرخ الثانية المختصة بقضايا النزاهة ضد إحدى الجمعيات السكنية، على خلفية عدم التزامها بتنفيذ تعاقدات شراء قطع أراضٍ مخصصة للموظفين.
ووفق نص الدعوى التي اطلعت عليها “المدى”، فقد قام الموظفون بتسديد مبلغ قدره 10 ملايين دينار لكل منهم إلى صندوق الجمعية كمقدمة لشراء قطعة أرض حسب العقود المبرمة والوصولات الرسمية، والتي نصت على أن استلام السندات يتم خلال ستة أشهر من تاريخ العقد. إلا أنه ورغم مرور أكثر من سنتين على إبرام العقود لم تلتزم الجمعية بتنفيذ بنود الاتفاق أو إعادة المبالغ المدفوعة.
وأشار مقدمو الدعوى إلى أن إدارة الجمعية اتبعت أسلوب المماطلة والتسويف، وتقديم وعود كاذبة حول مواعيد إعادة الأموال دون أي التزام فعلي. وبحسب الموظفين، فقد تبين بعد الاستفسار وجود قرار لمجلس الوزراء رقم 136 لسنة 2017 يقضي بإيقاف كافة التصرفات المالية والقانونية والإدارية للقطاع التعاوني، بالإضافة إلى قرار رقم 137 لسنة 2024 الذي يؤكد الالتزام بالقرار السابق، مما تبين وجود عمليات احتيال.
وكشف أصحاب الدعوى أن نحو 4000 موظف دفعوا مبالغ مماثلة إلى صندوق الجمعية، في حين ما يزال مصير تلك الأموال مجهولاً. وطالب الموظفون القضاء باتخاذ الإجراءات القانونية العاجلة بحق رئيس الجمعية وموظفيها وأعضاء مجلس إدارتها، محذرين من احتمال هروب رئيس الجمعية الذي يعمل حالياً على الترويج لإحالة نفسه إلى التقاعد خلال الشهر الحالي.










