أدارت الحوار: اناتو زابالبياسكوا
ترجمة: لطفية الدليمي
أصدر مؤلف رواية «شفرة دافنشي The Da Vinci Code" روايته الجديدة. وفي منزله بنيو هامبشاير، صرّح لصحيفة «إل باييس EL PAÍS " أنّ «سرّ الأسرار The Secret of Secrets " (وهي روايته الجديدة، المترجمة) تبحث في الوعي الخارجي؛ أي في الفصل بين الجسد والروح. لكن في هذه الرواية، وعلى خلاف رواياته السابقة، ليس بطلُهُ الأبدي، البروفيسور لانغدون Langdon، هو من يفكّ الألغاز، بل الدكتورة كاترين سولومون Katherine Solomon، شريكته.
يشبه منزل دان براون Dan Brown في إكسترExeter ، نيو هامبشاير، شيئًا من فيلم؛ بل يشبه شيئًا من رواية دان براون ذاتها. تحيط غزلان برونزية بالباب المؤدي إلى حديقة إنكليزية مترامية الأطراف، وتخفي خزائن الكتب الممرّات في المنزل. هناك أيضًا نسخ من لوحات ليوناردو دافنشي، مثل عذراء الصخور، التي تُعرَضُ نسختُها الأصلية في المعرض الوطني بلندن. يتمتّع براون، البالغ من العمر 61 عامًا، بالبهجة واللياقة البدنية؛ فهو يمارس رياضة ركوب الأمواج (الركمجة) الشراعية، وقد عاش حياته كلها داخل دائرة نصف قطرها 11.5 ميلًا مربعًا فقط. تحيط المدرسة الخاصة التي التحق بها – حيث كان والده (الذي يقول إنه أرمل ويحب إمرأة صقلية) لدراسة الرياضيات – وكذلك الكنيسة التي كانت والدته تعزف فيها على الأرغن، بهذا المنزل الذي بناه مع زوجته الأولى، بليث نيولون، التي التقاها أثناء دراسته للموسيقى في الأكاديمية التي تديرها. نيولون، التي تكبره بإثني عشر عامًا، هي مؤرخة فنية. شكرها براون على مساعدتها في بناء حبكة روايته شيفرة دافنشي. صدرت روايته الجديدة «سرّ الأسرار» في التاسع من سبتمبر 2025. هذه الرواية هي التي قادتنا لزيارة الكاتب حيث يقيم في نيوهامبشاير، وإجراء هذا اللقاء معه.
هل المعرفة خطرة؟
– من غير التعاطف، نعم. تكون المعرفة خطرة. لم يبتكر الجنس البشري تقنيةً لم يُسلّحْها لاحقًا. كلما زادت قدرات التقنية التي نمتلكها ازداد العالم خطورة. أعتقد أيضًا أنّ الحب أقوى من الكراهية. عليك أن تبذل جهدًا كبيرًا للعثور على الشر.
إنه (الشر) يحتكر عناوين الصحف...
– هذا صحيح. الشر الممزوج بالسلطة أمرٌ مُرعب.
كتب نيكولا تِسلا أنّه في اليوم الذي يبدأ فيه العلم بدراسة الظواهر غير الفيزيائية، سيتقدم بوتيرة أسرع ممّا فعل القرون السابقة.
– في زمن كوبرنيكوس، ثم غاليليو لاحقًا، اعتقدوا أنّ الأرض هي مركز النظام الشمسي. ركّزوا على ما لا يتوافق مع تلك النظرية. هكذا يحدث الأمر: تجدُ ثغرةً في نظريةٍ ما فتُشكّكُ فيها حتى تستبدلها بأخرى. نحن الآن في هذه المرحلة فيما يتعلّقُ بالوعي البشري.
روايتك الجديدة تبحث في هذا الأمر.
– نعتقد أنّ أفكارنا وأحلامنا – أي باختصار: ما يُكوّننا، ما يجعلنا نحنُ – هي نتاج أدمغتنا؛ لكنّ تجارب الإقتراب من الموت تُشير إلى مسارٍ مختلف.
هلّا قدّمْتَ أمثلة لو سمحت؟
– بدأ ديريك أماتو Derek Amato عزفه على البيانو ببراعة بعد أن كاد يغرَقُ في حمام سباحة. حدث ذلك عام ٢٠٠٦. بعد عشر سنوات شرع لاعب كرة القدم روبن نسيموه Reuben Nsemoh، البالغ من العمر ١٦ عامًا، يتحدث الإسبانية بطلاقة بعد أن أسقطته الكرة أرضًا. يدرس علم الأعصاب هذا الأمر الذي لو فهمناه إلى حدود جيّدة فسنتغير كجنس بشري.
شخصيتك سيينا Siena، في روايتك "الجحيم Inferno"، ترتكب الشرّ بإسم الحب.
– عندما تكتب فهذا هو الشرير الذي تريده: شخص مهووس بإنقاذ العالم؛ ولكنّه في الواقع يُدمّرُهُ!!
هل أنت متديّن religious؟
– نشأتُ مسيحيًا. كنتُ أعلم بوجود أناسٍ ذوي معتقداتٍ مختلفة، وكنتُ أحترمهم. لم يكن من الضروريّ أن تكون على حق؛ لكنك كنتَ جزءًا من جماعة. تكمن المشكلة عندما تُملي عليك هذه الجماعة كيف تعيش حياتك. حينها تبدأ الشكوك، أليس كذلك؟
هل هذا هو السبب وراء تحولك إلى لاأدري agnostic؟
– كانت والدتي عازفة أورغن وقائدة جوقة الكنيسة الأسقفية التي كنا نرتادها. عندما بلغتُ الثالثة عشرة من عمري، ذهبتُ إلى متحف العلوم في بوسطن. اكتشفتُ مفهوم التطور والإنفجار العظيم. أين كان آدم وحواء؟ سألتُ كاهني، فقال إنّ الأطفال الصالحين لا يسألون مثل هذه الأسئلة. تلبّستْني حالةُ توتر طاغية. كان والدي مُعلمًا، وقد نشأتُ مُحاطًا بمعلمين يقضون كل يوم في طرح الأسئلة. عندما لم يسمح لي الكاهن بالسؤال، عرفتُ أنّ هذا ليس مكاني، واخترتُ العلم ملاذًا أبحث فيه عن الإجابات.
كيف كانت ردّةُ فعل والديك؟
– كانت والدتي تقول إنّ الكتاب المقدس ليس كتاب تاريخ؛ بل كتاب قصص نتعلم منها. العلم والدين لغتان مختلفتان تحاولان شرح القصة ذاتها. العلم بالأسئلة، والدين بالأجوبة.
الفاتيكان قاطع روايتك "شيفرة دافنشي».
– لم أتفهّم حتّى اليوم سبب هذه المقاطعة. أنا أدافع عن الحوار. هذا ما تعلّمْتُهُ ُفي المنزل. لم تجذب الرواية من يرفض الحوار، والشك كذلك. هذا يعود في جذوره الأولى إلى ما قاله لي الكاهن: الإنسان الصالح لا يسأل مثل هذه الأسئلة!!
في روايتك «الجحيم» كتبتَ أنْ لا شيء يُغيّرُنا بقدر الألم.
– نسعى جاهدين لإجتنابه لأننا نسترشد بالراحة ملاذًا. لا أظنّنا سننجح يومًا. الحياة عمل شاق وما كانت يومًا ملهاة دائمة.
هل أنقذك الألم؟
– إنه يُساعد على الإبداع؛ لكن مُشاهدة المعاناة الإنسانية تُؤلمني أيضًا. كتبتُ «الجحيم» لأنني عندما كنتُ في الهند فكّرْتُ: يا له من بلدٍ رائع!!. يفوق عدد سكانه خمسة أضعاف ما يُمكنُهُ إطعامُهُ من البشر.
أردتَ أن تكون موسيقيًا، وانتهى بك الأمر بالكتابة.
– أنا موسيقي. ألّفتُ سيمفونيات، وأعزف على البيانو... لكنّنا نغيّرُ وظائفنا، و نُعيد ابتكار أنفسنا. أهدافنا تتطور مع الزمن.
من أين جاءتك فكرة الوعي الخارجي external consciousness في روايتك الأخيرة "سر الأسرار"؟
– أعتقد جاءتني من فقدان والدتي. من التساؤل عما يحدث عند الموت. لم أكن مع أحد لحظة الموت. من المؤلم جدًا بالنسبة لي أن أفكّر أنّنا عندما نموت تتبخّرُ آمالُنا وأحلامُنا.
أنت تُجادل بأنّ الوعي يُمكن أن يستمر بدون الجسد.
– أعتقد أن هناك أدلةً على أنّ الوعي يمكن أن يعيش خارج الجسد كما يحصل في تجارب الخروج من الجسد out-of-body experiences. ملايين الناس يؤمنون بذلك.
أنت تبحث عن دليل فيما لا سبيل إلى تفسيره. ديريك أماتو يعزف على البيانو بطريقة شديدة المهارة بعد أن كاد يغرق. هل يكفي هذا؟
– نجد صعوبةً في التصديق بسبب مقاومة المجهول؛ لكنّ هذا يُثبِتُ أنّ الوعي يأتي من مكانٍ آخر غير ما اعتدنا عليه في مواضعاتنا العلمية، ونحن لا نفهم آلية ذلك حتى اليوم. عندما نصادف أدلةً مثل عازف البيانو هذا، نعتقد أن أحدهم إختلقه ليظهر على التلفاز لكسب المال.
هناك العديد من عمليات الإحتيال...
– صحيح. لكن هناك أيضًا أشخاصٌ يستغلّون الدين. هذا لا يعني أن الدين سيّء. يتوجّبُ التفكير بدقّة وتمحيص وتمهّل. التعميمات السيئة المسبقة ليست خيارًا مفيدًا.
في روايتك «الأصل Origin"، ابتكرتَ شخصية ذكاء إصطناعي وسمّيتها على اسم كلبك: وينستون.
– انتقدوني كثيرًا على أساس أنّ الذكاء الإصطناعي لن يُولّد حسّ الفكاهة أبدًا. بعد سبع سنوات صار هذا الذكاء الإصطناعي يستخدمُ الفكاهة ببراعة متميّزة. أعلم أن كتابي الجديد هو وجهتنا: الحياة تتوسع في رحلةٍ أكبر. كتب آرثر سي. كلارك Arthur C. Clarke أنّ جميع التقنيات المتقدمة لا يمكنُ تمييزُها عمّا اعتبرناه سحرًا من قبلُ. لهذا السبب يظنّون بك الجنون عندما تقترح شيئًا مثل ما فعلتُ. لطالما ظنّوني مجنونًا.
إلامَ تعزو هذا؟
– الخوف. لكي تفكّر وترى بشكل مختلف، تحتاج إلى طموح وتواضع. روبرت لانغدون [الشخصية الرئيسية في الرواية] هو القارئ المتواضع. هو من يسأل: «لا أفهم تمامًا ما تقصده. هل يمكنك شرحه مرة أخرى؟»؛ لهذا السبب أستطيع الكتابة عن موضوعات مثيرة للجدل لأنّني أتأمّلُ الشك.
هل لانغدون، الذي يؤدّي دورَهُ السينمائي عادةً توم هانكس، هو شخصيتك البديلة؟
– إنّه الشخص الذي أرغب في أن أكونه: أشْجع وأذكى مني. ما يستغرق منّي في العادة ثلاثةَ أيام للبحث عنه، يقوله (لانغدون) في ثانيتين...
هل تسبح مثله؟
– المحيط هنا بارد جدًا وهناك أسماك قرش. أسبح في كوستاريكا. أعيش برفقة عائلتي هناك نصف العام.
لماذا كوستاريكا؟
– وجدتُ الطقس الجميل هناك فضلًا عن دفء الناس. بحثتُ في جميع أنحاء العالم: جنوب إسبانيا، جنوب فرنسا، ودائمًا ما كنتُ أصادف نفس النوع من الناس: «لديّ سيارات مازيراتي أكثر منك». ليس لديّ سيارات مازيراتي، ولا أهتمّ بتلك السيارات أو مسابقاتها. مثل هذا الهراء لا يحدث في كوستاريكا.
إلامَ تعزو هذا؟
– إلى التواضع.
هل يتعرّف عليك الناس؟
– تقصد أنّني أحبّ الظهور معهم كنجم سينمائي؟ لستُ كذلك؛ وفي الوقت ذاته أظنُّ أنني مُلزمٌ بالتصرف بأدبٍ في الأماكن العامة.
هل تُسيء التصرف أحيانًا؟
– لا. لا أشرب كثيرًا. لا أتعاطى المخدرات. أتعامل بكياسة، وأظنّني أعيش حياتي بقدر طيّب من السعادة ولا سيّما بعد شروعي بعلاقة خطوبة مع إمرأة تمهيدً لزواج قريب.
هذا خبرٌ جديد.
– أيُّ شخصٍ مرّ بتجربة طلاقٍ يعرف كم هو مؤلمٌ أن يصبح أهمُّ شخصٍ في حياتك خصمًا. وكما يتطور المجتمع يتطور الأفراد أيضًا. لقد توافقتُ أنا وبليث (زوجته السابقة، المترجمة) بشكلٍ رائعٍ لسنواتٍ عديدة، ثم... لم نعد كذلك. كان الأمر مؤلمًا.
كانت تُدير المدرسة التي درستَ فيها الموسيقى، وكانت تكبركَ بإثني عشر عامًا.
– أنت تُحبُّ مَن تُحب. العمر لا يُهمّني.
كم عمر خطيبتك الجديدة؟
– 41 عامًا.
العمر لا يهمّ؟
– لم يكن مهمًا أنني كنت أصغر من زوجتي السابقة بإثني عشر عامًا، ولا يهمُّ أنّ خطيبتي الآن أصغر مني بعشرين عامًا. إنها أكثر نضجًا مني بكثير. إنّها بطلة الفروسية الهولندية.
في رواياتك، النساء دائمًا قويات.
– كانت والدتي كذلك. وكذلك زوجتي السابقة بليث، وخطيبتي الجديدة جوديث. إنّهن من النوع الذي أجده جذابًا. امرأة ذات عقل قوي. الحبّ الذي يهمُّني هو حب شخصين يبقيان اثنين، لا أن يصبحا واحدًا.
أنت توصي بالكتابة عما تريد معرفته.
– الكتابة فرصة للتعلّم. هذا الحماس يبقى في الكتابة.
فكرة ويليام بليك William Blake القائلة بوجود دين واحد فقط؟
– جميعنا متّصلون، سواء فهمنا ذلك أم لا. معرفة نفسك تعني إدراك أنك جزء من شيء أكبر من عالمك الصغير. الموت والحياة متلازمان. الإجابات التي تحتاجها موجودة في الطبيعة؛ ولهذا السبب يوجد الله هناك.
هل تعرف نفسك؟
– تتحسّنُ معرفتي بنفسي أكثر فأكثر كل عام. أعتقدُ أنّ كتابة الروايات تتيح لك التعرّف على نفسك. أقضي ساعات طويلة بمفردي. عندما أواجه سؤالاً أبحثُ عنه حتى أجد ما أعتقد أنّه الإجابة المناسبة، ثم أحاول تمريرها للناس بأسهل طريقة ممكنة. لستُ مهتمًا بالإقناع بفرض رأيي أو جعل أحدهم يشعر بالجهل؛ بل بإقناعه بتقديم حجج مؤيدة ومعارضة.
هل السعادة هي الإمتنان؟
– الإمتنان والتراحم هما العاطفتان اللتان يمكنهما شفاء العالم.
توقّعْتَ جائحة الفيروس العالمي وتنامي التعصب.
– عدم احترام الآخرين لمجرد اختلافهم في الرأي هو الجانب الأكثر ظلمةً في الجنس البشري.
كيف ترى الطريقة التي يجب علينا أن نعيش الحياة على هَدْيِها؟
– التعاطف مع الآخرين مفتاح السعادة. استطعتُ اعتماد التسامح فلسفة كبرى في حياتي بفضل فكرة بسيطة للغاية: جميعنا نخطئ.
– أناتو زابالبياسكوا Anatxu Zabalbeascoa: صحفية إسبانية ولدت عام 1966. دَرَسَتْ علوم المعلومات في الجامعة المستقلة في برشلونة وأكملت تعليمها في تاريخ الفن في مدرسة معهد شيكاغو للفنون. تكتب للصحيفة الإسبانية ( الباييس ) منذ أكثر من 25 عامًا. (المترجمة)
– الحوار أعلاه هو ترجمة لمعظم فقرات المادة المنشورة في صحيفة El País (النسخة الإنكليزية) بتأريخ 21 سبتمبر (أيلول) 2025. العنوان الأصلي للموضوع باللغة الإنكليزية هو:
Dan Brown: ‘The human species has never created a technology that it hasn’t weaponized’
لا شيء يُغيّرُنا بقدر الألم
حوار مع الروائي البريطاني (دان براون)

نشر في: 19 نوفمبر, 2025: 12:05 ص









