قيس قاسم
- 2 -
من المرات القليلة التي تمنح لجنة تحكيم مسابقات الفيلم الوثائقي الطويل في مهرجان الجونة جائزتين لفيلم واحد، يحصل هذا عن جدارة مع فيلم «حياة بعد سهام» للمصري نمير عبد المسيح الذي نال جائزتي نجمة الجونة الذهبية لأحسن وثائقي عربي وعلى جائزة نجمة الجونة الفضية لأفضل فيلم وثائقي. فيلم "الحياة بعد سهام" (2025) شخصي ، يحكي عن عائلته وعنه، يأخذ سرده الحكائي شكلاً يشبه صاحبه؛ هاديء، صريح ينظر الى الأشياء ويتعامل معها وفق تكوينه الغربي٬ الميال إلى طرح الأسئلة وملاحقتها من دون إثارة حفيظة الآخر المنتظر منه إجابة عليها. يتعامل نمير عبد المسيح مع مشروعه السينمائي وكأنه منجز خاص، شخصي بحت٫ يصور ويسجل ما يريده كما يشاء ووقت ما يشاء. يحكي فيه عن علاقته بوالدته سهام ووالده وجيه عبد المسيح. لكثرة ما يصورها (تسجيلاً) تطلب منه أن تظهر معه في فيلمه الروائي المُنتظر. يعدها كما تريد٫ أن يكون مختلفاً عن فيلمه الأسبق المكرس لعائلته في مصر. المَشاهَد الأولى من وثائقيه٫ المصورة في شقة والديه في باريس تشي برغبتهم في أن يأخذ المخيال السينمائي ما يتجنبون الحكي عنه في الواقع. هذا الخيار المقترح يتوافق مع طبيعة والده الميال للصمت٫ المُقل في التعبير الصريح عن مشاعره أمام الآخرين٫ عكسه تبدو الأم سهام أكثر حيوية وحضوراً في حياتهم اليومية. حنونة وصارمة٫ حضورها الطاغي يشتمل فيه الجَد والهزل٫ يقرب سلوكها الحنون الآخرين اليها.
يوم موتها يطلب نمير من صديقه (مصور الفيلم) نيكولا دوشين الحضور لتصوير مراسيم دفنها. فالابن يريد أن يكون هذه المرة جزءاً من مشهد توديعها٫ لا يترك مسافة بينه وبينها كما كان يفعل دوماً حين يصورها حَية. موتها يترك فراغاً محسوساً في المكان وفي دواخل المقربين منها٫ فيبدو معه الوثائقي وكأن جانباً منه تعطل٫ لتعويضه يقرر نمير بدافع الإيفاء بوعده لها٫ أن ينجز فيلماً ليس روائياً كما تمنت في لحظة صفاء ومرح٫ بل أن يكون وثائقياً، عنها وعن رحلتها مع والده من مصر إلى فرنسا! يقترح على زميلته السيناريست سونيا موير (الكتابة مشتركة بينها وبينه) مقاربة ما توفر عنده من قصة حياتها بمَشاهِد مُقتطعة من أفلام مصرية كلاسيكية أكثرها ليوسف شاهين تحاكي جانباً مما مرت به وعاشته. يفتح هذا الخيار مساحة واسعة لتجريب أنواع من السرد٫ تتوافق ورغبة صانعه في أن يقدم فيلماً شخصياً يماثل التنويع الذي نشأ وتكون عليه. باختلاط موروثه المسيحي المصري وتكوينه الغربي تضحى أسئلة الموت والغياب والوحدة أكثر قبولاً للطرح والمعاينة. هذا ما يجعل "الحياة بعد سهام" حميمياً وصريحاً في مقاربة الشخصي بالعام، قريباً من منجز المصري «أبو زعبل ٨٩» لبسام مرتضى في محاولته التعمق في الذاتي مروراً بالعام المؤثر في تجارب شخصياته٫ وبهما يُفتح الباب لتوقع نقدي برغبة سينمائيين مصريين بالذهاب الى ذات الوجهة التي مضى اليها قبلهم الكثير من المخرجين اللبنانيين.
في قصتها مع زوجها ثمة جانب مسكوت عنه يريد الابن التوقف عنده ومعرفته. الفراغ الذي تركته يفرض تقارباً أكثر بينه وبين والده المُتكتم حتى عن تجربته السياسية المهمة وقصة تعارفهما وحبهما في ظروف معقدة. سهام المرأة المسيحية الريفية الجذور المتعلمة لم يرف قلبها لخطيب كما يرف لشاب يخرج للتو من السجن بعد الحكم عليه لنشاطه السياسي المعارض لسياسة جمال عبد الناصر ولانتمائه لصفوف الحزب الشيوعي المصري. خروجه جاء أثر تحول مواقف سياسية أرادت إنجاز بناء سد أسوان بمساعدة السوفيت. ثمن العلاقة الجديدة اطلاق سراح السجناء السياسيين اليساريين٫ ومن بينهم وجيه عبد المسيح. لم يدم هذا في عهد السادات حين شرع بمضايقة اليسار المصري٫ فقرر وجيه الرحيل إلى فرنسا. بالنسبة للابن ثمة غموض في الفترة الفاصلة بين ذهابه الى هناك وبقاء زوجته في مصر، لعلاقته بما سيعرفه لاحقاً ويخص نشأته وتكوينه الشخصي. بعد التحاق الأم بزوجها بفترة قصيرة، تحمل بنمير وتتعقد ظروف معيشتهم أكثر بسبب العوز. في لحظة مصارحة يتكشف له أن والديه وبسبب صعوبات حياتهما في المهجر يقرران تكليف خالته في مصر العناية به رضيعاً. أكثر من سنتين عاش هناك وبعدها أعادوه الى مدينة بولوني الفرنسية. يترك هذا الهجر القاسي غصة داخله، لكنه لا يحمل أحداً ذنباً بسببه٬ على العكس يعزز ذلك لديه قناعة لاحقة بأن الحياة المعاشة بكل طوله،٫ تكتنف على الدوام داخلها أوجاعاً وهجراً قاسياً يعمل نمير السينمائي على مكاشفة نفسه به بوعي فنان. ما يهمه منها في النهاية هو معرفة ذلك التاريخ الغامض٬ ليمضي بعده وبقية أفراد عائلته عيش حياتهم كما يفترض أن تُعاش .
بعفوية صادمة ببساطتها يتعامل الابن المزدوج الثقافة مع الزمن بوصفه مساراً قهرياً تنتهي حياة الأفراد فيه بالوحدة٫ منعزلين عن الذين كانوا يحيطونهم ويتشاركون معهم تفاصيل الحياة سوية. تقارب عزلة الأب وجيه بعد موت سهام ذلك التصور الفلسفي عنده للحياة ومساراتها الحتمية. نهاية حياة الأب تشبه نهاية علاقته بزوجته وطلاقه منها. لا شيء يدوم في هذا الكون، هذا ما يراقبه الابن في سلوك من أحب أمه. أحفادها الذين أثر فيهم موتها، اليوم حين كبروا وانشغلوا بذواتهم نسوها أو يكادون. يقف نمير متأملاً حالة النسيان، بعد حزن الناس الشديد على فراق وغياب أحبة! ربما الكلمات الجميلة مثل تلك التي يخاطب بها الأب الصموت ابنه لأول مرة وكأنه يعلن بها عن اقتراب نهاية حياته وعلاقته بالعالم، هي الأبقى في الذاكرة، وكل ما في تلك الرحلات الحياتية العجيبة يغيب ويُنسى. قلة هم المحظوظون الذين لديهم أبناء سينمائييون قادرون على توثيقها مثل نمير عبد المسيح، بلغة بصرية جميل، تتسع لتجريب أسلوبي ممتع ومُبرر سينمائياً.
وثائقيات الجونة «الحياة بعد سهام» توثيق ذاتي لحيوات في نهاياتها الحزينة

نشر في: 20 نوفمبر, 2025: 12:03 ص









