علاء المفرجي
في السنوات الأخيرة، برزت ظاهرة لافتة في المشهد السينمائي العالمي والعربي: صعود الإنسان العادي إلى مركز الحكاية. ذلك الشخص الذي يمشي بيننا بلا هالة درامية، بلا قوى خارقة، بلا عباءة بطل ولا حظّ رجل قدرته السينما على صنع الأساطير. فجأة أصبح "الطبيعي" هو الأكثر إثارة، وأصبح "العابر" أكثر حضورًا من كل الشخصيات المدهشة التي كانت تسكن خيالنا.
هذه العودة ليست مجرد نزوة أسلوبية، بل انعكاس لتحوّل عميق في نظرة الجمهور لمفهوم البطولة. فالعالم بات مرهقًا بالخوارق: في الأخبار، في السياسة، في التكنولوجيا، في الوعود المقبلة من كل حدب. الناس، ببساطة، لم يعودوا يثقون في البطولة العالية اللمعان؛ يبحثون عمن يشبههم، عمن يشاركهم السقوط والارتباك ومحاولات النجاة الصغيرة. وهنا وجدت السينما نفسها مدفوعة نحو إعادة اكتشاف بطولة الهشاشة بدل بطولة القوة.
في أفلام المهرجانات والأعمال المستقلة وحتى الإنتاجات التجارية، نرى اليوم حضورًا طاغيًا لشخصيات بلا إنجازات عظيمة، لكنها تمتلك شيئًا نادرًا: الصدق. رجل يعاني ضغط الحياة اليومية، امرأة تكافح من أجل الحفاظ على أسرتها، شاب يبحث عن مستقبل وسط فوضى بلد مكتظ، مسنّة تحاول تذكّر ما تبقى من أيامها. هؤلاء جميعًا لا يُنقذون العالم، بل يحاولون، على استحياء، إنقاذ أنفسهم. وهذا وحده يكفي ليجعل منهم أبطالًا.
لقد مرّ زمن كانت فيه السينما تقدّم الإنسان بوصفه كائنًا قادرًا على قلب الموازين بلقطة أو معركة أو قرار مصيري. اليوم تغيّر الميزان. أمسى الجمهور يرى البطولة في لحظة صدق، في مواجهة خوف بسيط، في اعتراف صغير، في خطوة نحو الصواب بعد سلسلة أخطاء. وهنا تكتسب السينما قوتها الجديدة: أنها تقدّم لنا بطلاً يمكن أن نراه في المرآة.
من اللافت أنّ هذه الموجة لم تأتِ من الغرب وحده؛ فالسينما العربية أيضًا تتجه نحو هذا النمط. في أفلام تتناول الحياة اليومية باشتباكاتها البسيطة، نرى كيف صار الإنسان العادي مادة غنية للدراما. لقد تحوّل الحيّ الشعبي، والمقهى، والبيت المتواضع، وقلق المعيشة إلى فضاءات سينمائية تقف بقوة أمام قصور الماضي وصالات الأبطال المُتخيلين. صارت المعاناة اليومية "قصة"، وصار صراع البقاء "حبكة".
ما الذي يدفع السينما إلى هذا الخيار؟ ببساطة: الحياة نفسها. العالم أصبح أكثر تعقيدًا وأقل رومانسية، وأكثر واقعية وأقل بطوليّة. حين تختفي اليقينيات، يصبح الإنسان العادي آخر ما يمكننا الاتكاء عليه. وحين ينهار وهج النماذج الخارقة، نعود إلى الإنسان بوصفه السؤال والجواب معًا.
قد يقول البعض إن هذه الموجة ستنحسر مثل غيرها. وربما. لكن ما نعرفه اليوم هو أن السينما تستعيد وظيفتها الأصلية: أن تُظهر الإنسان كما هو، لا كما نتخيّله. وأن تمنح البطولة لمن يستحقها حقًا: لنا جميعًا، نحن الذين نمشي في الحياة دون مؤثرات صوتية ولا موسيقى تصويرية، لكننا نحارب معارك حقيقية لا يراها أحد.
هذا التحوّل ليس موجة عابرة، بل استجابة لواقعٍ أنهك البشر. فالعالم صار متسارعًا، متخمًا بالضغط، حتى باتت القصص الهادئة أكثر إقناعًا من أي أسطورة. الجمهور يريد أن يرى نفسه، بضعفه وقوته، لا نسخةً مثالية لا تشبهه.
هكذا تعيد السينما تعريف البطولة: ليست بطولة القوة، بل بطولة النجاة؛ ليست بطولة الضجيج، بل بطولة التفاصيل الصغيرة التي نصنع بها حياتنا كلّ يوم.
بطولة الإنسان العادي ليست تقليلًا من شأن الفن؛ هي إعادة تعريف له. إنها تذكير بأن أعظم القصص تبدأ بخطوة صغيرة، وأن أعظم الأبطال هم الذين يعبرون يومهم بسلام.










