د.سهام يوسف علي
يبدو أن العراق قد اكتشف أخيراً مصدر كل أزماته: الموسيقى.لا الفساد، ولا ضياع الثروات، ولا انهيار الخدمات.المشكلة ،بحسب بعض الأصوات هي حفلة في الجنوب؛مرّة في الناصرية تحت خطبة صدر الدين القبانجي،ومرّة في البصرة تحت توقيع المحامي ضرغام البعاج.
مشهدان يبدوان منفصلين، لكن الحقيقة أنهما جزء من جبهة واحدة ضد حق الناس في الحياة.
أولاً: خطيب يرى في الغناء… حرباً على الدين
يخرج صدر الدين القبانجي ليعلن، بكل ثقة، أن حفلاً غنائياً في الناصرية هو "حرب لسلب الهوية الدينية"، وكأن العراق ينعم بالسلام والازدهار، ولم يبقَ من الخراب المتوارث إلا موسيقى شابة تعزف على ضفاف الفرات! يا للسخرية…هكذا يختزل خطيب النجف معركة العراق الوجودية، ليس الفقر حرباً، ولا البطالة حرباً، ولا سرقة الموازنات حرباً، ولا جفاف دجلة والفرات حربا ولا خرق السيادة حربا… الحرب الحقيقية، بنظره، هي شاب يعزف جيتاراً وفتاة تلوّح بضوء هاتفها!
يا للعجب…الناصرية ليست مدينة عابرة كي يُختزل حاضرها بخطبة أو بلاغ قضائي؛ إنها تقف على أرث من التاريخ تبدأ بسومر وأكد وأور وأريدو، أولى المدن التي صنعت للإنسان فكرة البيت والمدينة والقانون والموسيقى نفسها، هنا وُلدت القيثارة الأولى، وخُطَّ أول حرف، وشُيّدت أقدم زقّورة. فمن يلاحق حفلاً غنائياً في أرضٍ اخترعت الغناء قبل سبعة آلاف عام، إنما يحاول محو ذاكرة حضارية أكبر منه، وأقدم من خطابه، وأعمق من حدود وصايته.
القبانجي لم يكتفِ بوصف الحفل بأنه حرب، بل مضى أبعد:، دعا الدولة والعشائر والعلماء لإغلاق الباب على أي محاولة تكرار.
ثانياً: محامٍ يذهب إلى المحكمة… ليحظر حفلة في البصرة
وفي البصرة، يقدّم المحامي ضرغام البعاج “إخباراً قضائياً” لمنع حفلة لمحمد عبد الجبار لأنها –كما يقول– “تسيء للشعائر”، و“تورث ضغائن”، وتشكل “فعلاً إجرامياً” وفق المادة 373.
يا للهول ،العراق الذي نهشته الصفقات، وغرقت مدنه بمليارات مهدورة، وانهارت دولته تحت ثقل اللصوص، لم يرَ جريمة أخطر من “الأغاني الوطنية”!
البصرة التي تُغرقها الملوحة، ويخنقها التلوث والسرطان… لم تجد ما يستحق الوقوف ضده سوى مطرب يحمل ميكروفوناً، لا بندقية!
المفارقة المضحكة المبكية أن الاستشهاد بالمادة 373 من قانون العقوبات –وهي مادة غامضة وفضفاضة عن “خدش الحياء”،أصبح وسيلة علنية لفرض حكم اجتماعي بدوافع دينية.
المادة لم تُستخدم لضبط متحرش أو معنف أو متلاعب بالقانون.
أليس هذا إعادة إنتاج لخطاب الخوف ذاته الذي لعبت عليه الجماعات المتشددة سابقاً؟
الخطاب الذي يجرّم الفن، ويُلبس الفرح تهمة، ويحوّل أي تجمع مدني إلى “جريمة”؟
أليس هذا ضرباً جديداً من الوصاية التي تحاول فرض قالب واحد للحياة الاجتماعية، وكأن الناس قُصّر يحتاجون إلى وليّ شرعي يقرر عنهم؟
ما الرابط بين القبانجي والبعاج؟
الرابط ليس الدين، وليس الحرص على المجتمع، الرابط هو الوصاية، وتثبيت سلطة اجتماعية تريد أن تقول للناس:كيف تفرح؟متى تغني؟ومتى تصمت؟إنه خطاب يريد الجنوب بلا صوت، بلا موسيقى، بلا حياة،القضية ليست حفلة.
القضية هي من يملك حق تعريف “الحلال والحرام” و“الذوق العام” و“هوية المجتمع”.
القضية هي محاولة تحويل المدن إلى مقابر صامتة، بينما اللصوص يسرحون ويمرحون بلا مساءلة.
ثمّ لنفهم جيداً:
من قال إن احترام الدين يتطلب قتل الفن؟ ومن قال إن الحزن دين، والفرح خطيئة؟
لا شيء أخطر من خطاب يريد أن يحوّل المدن إلى مقابر صامتة،لا شيء أخطر من تحويل القانون إلى عصا، والدين إلى محكمة، والمجتمع إلى متهم دائم.
الحشود التي تخرج ضد الحفلات، لماذا لا تخرج ضد صفقات الموانئ المشبوهة في البصرة؟
لماذا لا تقدّم دعاوى ضد تهريب النفط، أو ضد بيع الوظائف، أو ضد شركات الخدمات الوهمية؟
إن الدفاع عن حفلة ليس دفاعاً عن مطرب، بل عن حق الناس في أن يعيشوا كائنات كاملة، لا رعايا محكومين بالوصاية، والبصرة والناصرية ،بعمقهما التاريخي والحضاري، أكبر من أن يُختصر مستقبلها بخوف من أغنية، أو برعب من ضوء مسرح.











جميع التعليقات 1
سعد عزيز دحام
منذ 7 أيام
كلما ضاق صدر السلطة، اتّسعت دائرة التحريم. نقف مع الناصرية والبصرة لأن الفرح ليس جريمة، ولأن المدن التي علّمت العالم الحرف واللحن لن تُختزل بخطاب يخاف من الأغنية أكثر من خوفه من الفساد. الدفاع عن الفن هو دفاع عن حق الناس في الحياة.