TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > الموت الدلالي للثقافة العراقية

الموت الدلالي للثقافة العراقية

نشر في: 23 نوفمبر, 2025: 12:03 ص

أحمد حسن

اليوم، يمر الوسط الثقافي العراقي بمرحلة انحسار تدريجي نتيجة بروز اشكال ثقافية جديدة فرضها أفراد يفتقر بعضهم إلى الكفاءة المعرفية والخلفية الثقافية اللازمة. باستثناء مؤسسات قليلة حافظت على دورها الأصيل في ترسيخ الذاكرة العراقية، مثل بيت المدى الذي يمثل نموذجا لنشاط ثقافي راسخ ومتوازن . نجد أن كثيراً من الفضاءات الثقافية الرسمية وغير الرسمية اتجهت الى تغيير النشاط الثقافي إلى سلوك بروتوكولية قائم على المجاملات، والظهور الإعلامي، والمكاسب السريعة، والحسابات السياسية والعشائرية، إضافة إلى ممارسات المحاباة المرتبطة بمراكز القوة الاقتصادية والأمنية والسلاح والعشيرة في البلاد.
هذا التحول أضعف الوظيفة المعرفية والإنسانية للثقافة، وهي الوظيفة التي تمثل العمود الفقري لبناء الوعي العام. وتكشف هذه الظاهرة عن مشكلة كبيرة في قدرة المجتمع على حماية إرثه الفكري، الأمر الذي يندرج في تهديد صامت يمس الهوية الحضارية العراقية. لقد تغيرت الثقافة في كثير من مواقعها الرسمية من رافعة للبناء والاستمرارية الحضارية إلى وسيلة لجني المصالح والمظاهر المؤقتة، واستخدامها حاجة وسط شبكات النفوذ والمشاريع السياسية التي تهيمن على الدولة والمجتمع على وجه الخصوص بدلاً من أن تكون مسارا للمعرفة والإبداع وتوسيع أفق الاخلاق والوعي الحضاري العراقي.
ويمكن ملاحظة أن الشخصيات الفكرية التي أسهمت في تشييد البنية الحضارية والثقافية للعراق مثل الجاحظ وابن الهيثم، وهما من رموز البصرة، والكندي ابن الكوفة، إلى جانب أسماء أخرى تتعرض لتغييب واضح داخل المؤسسات الثقافية العراقية الرسمية وغيرها. فعلى الرغم من موقع الجاحظ المركزي في التراث العربي الكلاسيكي بوصفه أحد كبار أعلام الأدب والفكر ومفصلاً يربط البلاغة بالاجتماع والفلسفة لا نعثر له على حضور فعلي في المناسبات والفعاليات الثقافية التي انطلقت منذ عقدين، في سياق ما يفترض أنه انفتاح نحو حرية ثقافية أوسع.
وعلى النقيض من ذلك، نرى أن إرثه يحتفى به سنوياً في ديسمبر من كل عام داخل المختبرات اللسانية واللغوية في العديد من الجامعات الغربية، في حين لا يرد أي ذكر له في اتحاد الأدباء والكتاب العراقيين، أو في المجمع العلمي العراقي، كما لا تصدر وزارة الثقافة او حتى وزارة التعليم العالي ولا جامعة بغداد أي إشعار يذكر بذكرى وفاته في 18 ديسمبر، وهو التاريخ نفسه الذي اختارته اليونسكو ليكون اليوم العالمي للغة العربية. هذا الغياب الرمزي يشير إلى مشكلة كبيرة في إدارة الذاكرة الثقافية ويبين حالة تراجع في القدرة على صون الرموز المؤسسة للهوية الفكرية للحضارة العراقية.
وبينما يتراجع حضوره في العراق يستمر إرث الجاحظ في الظهور داخل الفضاء الأكاديمي العالمي كما هو الحال في باريس اذ يدرس في كورس جامعي ضمن مركز جان بابان (الوحدة المختبرية 8230) وهو مختبر بحثي مشترك بين المركز الوطني للبحث العلمي والمدرسة العليا (ENS-PSL)، تحت عنوان "الجاحظ، العالم وموثّق الآراء". هنا يتحول الجاحظ إلى جزء من النقاش العالمي حول الفكر العربي والعراقي الكلاسيكي بما يظهر رؤية أكاديمية حقيقية ترى في إرثه مادة معرفية قابلة للتأثير والإسهام، في الوقت الذي يبقى فيه اسمه غائباً او بالأحرى مغيبا عن المؤسسات الثقافية في وطنه )بغداد و البصرة(.
تكشف هذه المفارقة القاسية طبيعة انحدار المسار الثقافي العراقي اليوم اذ خضعت البنية المؤسسية لهيمنة مجموعات غير متجذرة في الحقل الثقافي وانخرط بعضها في شبكات سياسية وعشائرية ومع أصحاب السلاح المنفلت مستكملة بذلك الانهيار الذي بدأته الأنظمة السابقة. وتحولت مؤسسات التي كان يفترض أن تكون حارسة لذاكرة العراق الحضارية إلى ساحة عشوائية تستخدم فيها الرموز الفكرية كأوراق تبادل للحصول على منافع سلطوية ومالية، تتراوح بين الامتيازات الإدارية والسفرات ومنح الأراضي في أطراف المدن. وفي ظل هذا التغيير أخذت الثقافة الحضارية العراقية بالاختفاء تدريجيا وظهرت بدلاً عنها ممارسة يمكن وصفها بـ"تجارة الدلالات" التي تعرض فيها العناوين الكبرى مثل مهرجانات لشعراء كبار أسماؤهم رسخت في الذاكرة العراقية الى المزادات المغلقة التي يحضرها أصحاب النفوذ المتورطة في تدمير العراق وأصحاب السلاح والمال لشرائها واستخدامها في الداعية الانتخابية والاحتماء فيها لتوهيم المجتمع عن جهلهم واظهارهم في افضل صورة على انهم حضاريون!.
ومن منظور استراتيجي، فإن غياب الجاحظ عن الوعي الثقافي الرسمي يوضح وجود ازمة كبرى في إدارة الذاكرة الحضارية وفي القدرة على صيانة هوية ثقافية متماسكة أمام التحديات الداخلية والخارجية. وفي الوقت الذي تهمل فيه المؤسسات العراقية أحد أعلام الفكر العربي يمضي العالم في تكريس إرثه ويعاد تقديمه بوصفه رمزا معرفيا عالميا يحظى بالاحترام. الدلالة واضحة على ان المجتمعات التي تتخلى عن رموزها المؤسسة تعجز عن بناء حاضرها وتفقد القدرة على استشراف مستقبلها فتبدو منزوعة الذاكرة ومعزولة عن روافد الأدب والفكر والمعرفة.
ولعل تدريس الجاحظ في باريس ضمن كورس "العالم والموثّق للآراء" يمثل اختباراً حقيقياً لقدرة العراق على إدارة تراثه الثقافي. فما يجري هناك هو نموذج لكيفية تحويل الإرث الفكري إلى طاقة معرفية تشارك في تشكيل وعي عالمي، بينما غياب خطة مماثلة في الداخل أدى إلى تآكل واضح في الثقافة الحضارية العراقية. هذا البرنامج التعليمي يقدم شهادة بالغة الدلالة على أن التراث القيمي يعيش حين يحتضن وينمو حين يدرس ويزدهر حين يدرج في النقاش الفكري الدولي حتى وإن غاب عن فضائه الأصلي.
إن الانحدار الثقافي الراهن، وما رافقه من إهمال للرموز المؤسسة واستبدالها بأنشطة بروتوكولية أنتج حالة من الإفقار المعرفي العام. ويمكن النظر إلى تغييب إرث الجاحظ بوصفه مثالاً صارخاً على هذا التناقض بين مكانة التراث العراقي في الوعي العالمي وبين وضعه المتجهل في الوعي الداخلي اذ تهيمن اليوم سلوكيات تستبدل القيمة الفكرية بمنطق العرض والطلب، وتتجول الرموز الكيرى مثل الرايات العشائرية بين مواسم الانتخابات ومراكز النفوذ في اشبه بهيئة دلالات معروضة للبيع.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق الدولي للكتاب

الأكثر قراءة

العمود الثامن: سياسيو الغرف المغلقة

العمود الثامن: ماذا يريدون؟

العمود الثامن: مطاردة "حرية التعبير"!!

السردية النيوليبرالية للحكم في العراق

العمود الثامن: عاد نجم الجبوري .. استبعد نجم الجبوري !!

العمود الثامن: ماذا يريدون؟

 علي حسين دائما ما يطرح على جنابي الضعيف سؤال : هل هو مع النظام السياسي الجديد، أم جنابك تحن الى الماضي ؟ ودائما ما اجد نفسي اردد : أنا مع العراقيين بجميع اطيافهم...
علي حسين

كلاكيت: مهرجان البحر الاحمر فسيفساء تتجاور فيها التجارب

 علاء المفرجي في دورته الخامسة، يتخذ مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي شعار «في حب السينما» منهجًا له، في سعيه لإبراز هذا الشغف الكبير والقيمة العليا التي تعكسها كل تفصيلة وكل خطوة من خطواته...
علاء المفرجي

لمناسبة يومها العالمي.. اللغة العربية.. جمال وبلاغة وبيان

د. قاسم حسين صالح مفارقة تنفرد بها الأمة العربية، هي ان الأدب العربي بدأ بالشعر أولا ثم النثر، وبه اختلفت عن الأمم التي عاصرتها: اليونانية، الفارسية، الرومانية، الهندية، والصينية.. ما يعني ان الشعر كان...
د.قاسم حسين صالح

لماذا نحتاج الى معارض الكتاب في زمن الذكاء الاصطناعي؟

جورج منصور في عالمٍ يتسارع فيه كلُّ شيء، ويكاد الإنسان أن ينسى نفسه تحت وطأة الضجيج الرقمي والركض اليومي، يظلُّ (معرض العراق الدولي للكتاب)، بنسخته السادسة، واحداً من آخر القلاع التي تذكّرنا بأن المعرفة...
جورج منصور
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram