طالب عبد العزيز
يجمع الصناعيون العراقيون على أنَّ الحكومة العراقية وبتأثير خارجي تقف حائلاً دون إعادة الحياة للانشطة الصناعية، وأنَّ وزارة الصناعة مأمورة بذلك على اختلاف وزارئها، والقول بخلاف ذلك أمرٌ غاية في التعقيد، ولا سبيل لحله. فنحن نسمع ونشاهد في العديد من التقارير الصحفية والبرامج التلفزيونية ما يؤيد ويعاضد ذلك، حتى باتت القضية بحكم العرف والقانون، على الرغم من نفي المسؤولين في الوزارة لذلك.
منذ سنوات عجافٍ سبع والمستشار الكيمياوي(مرتضى كامل مفتن) صاحب معمل للصناعات التحويلية الغذائية (الدبس و معجون الطماطم) في البصرة، يعاني من تعقيدات حكومية في تنفيذ مشروعه الصناعي، وهو مشروع صناعي تحويلي متكامل، يقوم على مواد أولية متوفرة بكثرة في البصرة، ويمثّل ركيزة مهمة لدعم الزراعة المحلية وتشغيل الشباب وتقليل الاستيراد. فقد توقّف المعمل طوال المدة هذه بسبب اعتراض (شركة إيني الإيطالية) العاملة ضمن جولات التراخيص، مع أنَّ الأرض (أرضه)تقع خارج عمليات التنقيب والحفر وخطوط نقل الطاقة، على الرغم من المخاطبات الرسمية المتكررة من وإلى دوائر الزراعة والشركات المتعاونة مع شركة نفط البصرة، فإن الرد من الشركة كان دائماً: “قد نحتاج الأرض مستقبلاً.”
يقارن مرتضى ما يحدث له من مرارة وأوجاع بما قرأه في رواية عبد الرحمن منيف(مدن الملح) والتحوّل الجذري الذي أصاب الإنسان والمكان في الجزيرة العربية بعد اكتشاف النفط. حين كان المجتمع قبل النفط قائماً على التعاون، والودّ، والارتباط بالأرض، وحين كانت الطبيعة جزءاً من هوية الإنسان، لكن الحياة تحوّلت إلى مدن إسمنتية هشة، بعد اكتشاف النفط، مدن تشبه مدن الملح؛ مدن تبنى بسرعة وتنهار بسرعة، وتذوب عند أول موجة تغيير كما يذوب الملح في الماء، هذه المدن (الجديدة) لم تغيّر شكل الجغرافيا فقط، بل غيّرت روح الإنسان نفسه: فقد اقتلعت الأجيال من جذورها، وحطّمت المهن الزراعية القديمة، وولّدت جيلاً اتكالياً يعيش على الريع النفطي بدلاً من العمل والإنتاج. وهكذا أصبحت الثروة نقمةً لأنها اقتلعت الناس من تاريخهم وأرضهم وحرفت مسار التنمية.
بعد أنْ خرجت أقضية زراعية مثل أبو الخصيب والقرنة وشط العرب والفاو-بسبب النفط- من كونها أراضي زراعية وسلال غذائية أمّنت حاجة البصرة والمحافظات سنوات طويلة مما تحتاجه من حبوب وخضار وفاكهة يجري الامر ذاته اليوم على أراضي الزبير وسفوان وخور الزبير والبرجسية واللحيس فهي الأخرى تعاني من تعقيدات لوائح (جولات التراخيص) سيئة الصيت والتي تحوّلت بموجبها مساحات واسعة من الأراضي الزراعية الخصبة، التي كانت تمثل هوية البصرة وروحها إلى مناطق مغلقة تابعة لشركات النفط، بعد أن اقتُلعتْ آلاف الدوانم من مزارع الطماطة و الكثير من بساتين النخيل، وتحوّلت الأراضي إلى كتل كونكريتية ومواقع تشغيل وممرات أنابيب.
لم يقتصر الأمر على تغيير شكل الأرض، بل إلى طرد الفلاحين من مناطقهم، ودفعهم إلى أراضٍ بعيدة على الحدود، تفتقر إلى الماء والكهرباء والطرق، بما يجعل الإنتاج الزراعي شبه مستحيل، ويجعل عملية تسويق المحاصيل شاقةً ومرهقة، إنْ لم تكن خاسرة. المشهد هذا يشكّل تهديداً خطيراً على مستقبل الزراعة، وعلى أي مشروع حقيقيٍّ، من شأنه تمكين القطاع الخاص وتقليل البطالة وإيقاف استنزاف العملة الصعبة عبر الاستيراد العشوائي للمواد الغذائية.
ليس الفلاح وحده من دُفع خارج المشهد، إنما المشاريع الصناعية الوطنية التي تعتمد على المنتج المحلي صارت تواجه عراقيل غير مبررة، ولعلّ المثال الأوضح هو مشروع السيد مرتضى مفتن؛ الصناعي، المعمل الوحيد في جنوب العراق لإنتاج معجون الطماطة والدبس، الذي أقيم على أساس تحويل آلاف الاطنان من محصول الطماطة في موسم الوفرة الى معجون تحت عبارة (صنع في العراق) لكنَّ السنوات السبع الماضيات دمّرت مشروعاً كاملاً، وقطعت أرزاق عشرات العوائل، وأوقفت إنتاجاً وطنياً نحن بأمسّ الحاجة إليه. إن تكرار سيناريو “مدن الملح” في البصرة اليوم يعني أنَّ المدينة تتحول من منطقة زراعية وصناعية واعدة إلى صحراء كونكريتية خالية من الإنتاج الحقيقي.نتحدث عن مشروع وطنيٍّ قادر على تشغيل الشباب، وتحويل المحاصيل المحلية إلى منتجات غذائية، مازال رهين أسوار “الاحتمالات النفطية”.
وبما يشبه الصرخة المدوية يرفع مرتضى صوته إلى كلِّ مسؤول وصاحب قرار، مستنهضاً فيهم روح الوطنية والانتماء لأنَّ إنقاذ مثل المشاريع هذه لا يشكلُّ خدمة لصاحبها حصراً؛ بل لحماية اقتصاد البصرة والبلاد، ودعم قطاعها الزراعي والصناعي، وإحياء لهويتها قبل أن نصل إلى مرحلة لا يعود فيها شيء نقوم باستعادته، ويعود الى عبد الرحمن منيف ومدنه الملحية فيورد منها :" الأرض عندما تُنتزع من أهلها، تنتزع معها الذاكرة.” والبصرة والعراق بعامة بحاجة إلى من يعيد لها الأرض… والذاكرة… والهوية.










