TOP

جريدة المدى > عام > في قراءة متأخرة.. (منازل العطراني) لجمال العتابي

في قراءة متأخرة.. (منازل العطراني) لجمال العتابي

نشر في: 23 نوفمبر, 2025: 12:02 ص

عبد اللطيف السعدي
أثار انتباهي، وشكل سبباً لغبطتي خبر صدور الرواية الأولى، حسب علمي ومعرفتي، للصحفي اللامع والكاتب والمثقف الشمولي، جمال العتابي. وأقصد رواية ( منازل العطراني). طبعاً يأتي ذلك لأسباب لها علاقة بمعرفتي به، وبإخوانه. فذكرهم يثير في روحي ذكريات لمحطات هامة في سيرتي ومسيرتي الحياتية. وفرحتي كانت كبيرة حين بشرني العزيز الجميل سامر العتابي باستعداده لإرسال الكتاب الرواية لي إلى إيطاليا. ولم أخف فرحي حتى أمام ساعي البريد الذي حمل الرواية. وبدأت مباشرة القراءة بانتباه وحس نقدي، محاولاً عدم التأثر بالعلاقة والحرص على التمحيص في كل مايرد من نصوص بكل الأبعاد والمعاني، الفنية والأدبية، خاصة وأنني قرأت له الكثير من المقالات الصحفية والمتابعات الفنية للكاتب ... أي أنني ادعي أنني أعرفه ككاتب صحفي.
لم تسمح لي ظروف معيشتي في إيطاليا وفي البيت من التواصل بقراءة مستمرة، كما وددت، حتى الانتهاء من الرواية. ولكنني لم أتوانى عن استغلال أية فرصة حتى وأنا أجلس في بار قريباً من البيت لتناول فنجان قهوة. وبمتابعة أبواب وصفحات الرواية، كنت وفي كل مرة أنشدّ أكثر للغوص في كوامن النصوص لاكتشاف مكامنها وما تحت السطور فنياً ومحتوىً. وقد تلمست أنني أسترجع مراحل وأحداث حية في الذاكرة في تأريخ عراقنا المعاصر. تفاصيل أعادتني لما عشناه قبل وبعد ثورة تموز عام 1958 الملهمة، وحينها كنت صغيرا في العمر، كبيراً في توقي لمعرفة العالم المحيط والكون وخفاياه. ولم يرد الكاتب تلك الأحداث بشكل بيوغرافي، بحت، وإنما في إطار صياغات أدبية ملفتةٍ مسبوكة ببناءٍ روائي مميز. وربما وأنا أتابع القراءةِ، كنت أستعيد قراءاتي لسرديات منتخبة لكتاب أعلام في فن الرواية وبينهم وفي مقدمتهم الروائي غائب طعمة فرمان وآخرين من كتاب الرواية العراقية والعربية.
" يموت الشجر بجانب البئر عطشاً، لكنه لا ينحني أبداً لطلب الماءِ". جملة بليغة تبرز وتوثق خصالاً أخلاقيةً، يقل مثيلها اليوم. وهي – كما استوعبتها- ليس فقط تأتي توثيقاً لسمةٍ من سمات المكافحين، وهو سليل عائلةٍ لها باع في باحات الكفاح، وإنما تأتي في إطار نهج لكل مسار الرواية المكثفة بلغتها وبنيتها، لتشكل إحدى عتلات التأثير في الواقع، واقعٍ صار يتسم، ومع الأسف، بسيادة الأنانيات والبعد عن أخلاقيات عرف بها شعبنا والمناضلون الصادقون، من أجل خيره، طيلة عقودٍ من تاريخ العراق المعاصر.
وتأكد هذا النهج في السرد الروائي عبر الحوارات، بمفردات لغوية بسيطة ولكنها بلاغية. فقد أورد الكاتب تفاصيل أحداث ووقائع، ربما يصعب إيرادها في كتاب يختص بكتابة التاريخ. ففي أولى أبواب الرواية أعادني العتابي إلى أيام صباي، ووصف حالة هروب سجناء من سجن الكوت، وكان أخي الأكبر سلمان داود من بينهم، وكيف أنهم اجتازوا الصحاري والبساتين الكثة، حتى بلوغه البيت، واضطراره للبقاء مختفياً فيه حتى رصدته عيون ما أطلق عليه ( الحرس القومي) حين حاصروا وهاجموا البيت واعتقلوه، عام 1963. وكنت ذلك الصبيّ الصامت الذي يراقب الأمور بألم وغضبٍ مكبوت.
جمال العتابي سرد أحداثاً واقعية مرت بها أجيالنا، بسلاسة لغوية محببة، وعبر أصوات لأجيال مختلفة متباينة في فهمها وقدرة أبنائها على استيعابها، وهم يتعايشون في زمن مرحلةٍ واحدة. فجاء السرد متواتراً في النمو والصعود زمانياً ومكانياً. ولم يفته وهو يحدد سمات أبرز شخوص الرواية، (محمد الخلف)، أن يربط وبشكل محبك سليم بين بين واقع ووقائع المدينة والريف، وعبر بيوت ومنازل وباحات قرية العطراني. فأعطى لمحات مؤثرة لمعاني وأبعاد الصراع حتى بأبعاده النفسية الداخلية للمكافح المنتمي، وبينه ورفاقه وتنظيمه، وفي أجواء الأهل ومشاعرهم وضغط الحياة اليومية القاسية في أبعادها المادية والمعيشية اليومية. كما أنه جسد طابع الصراع مع قوى لا تعرف غير أساليب الهتك والقتل والتصفيات الجسدية لمنع الخصوم من التعبير عن المواقف وهي تنطلق من أجل خير البلاد والعباد. والحديث يدور حول تجربة ما بعد انقلاب شباط الأسود عام 1963.
لم يخل النص الروائي في رواية (منازل العطراني)، من الرمزية في ذكر أحداث تاريخية عراقية وعالمية، ودون الإخلال بانسيابية السرد المتواصل عبر أصوات الشخوص، وقارب بين الأمكنة في المدينة والريف وشخوصهما كما أسلفت. ونجح في شد القارئ لمواقف تلك الشخوص حتى عبر توصيف قسمات الوجوه وكأنه يرى فلما أمامه، وأيضاً عبر الحركات والتحركات وردود فعل أبطال الرواية. وأعطى باحات وافية لتسجيل الدور المشهود للمرأة ولنساء شعبنا في دعم أبنائهم وأزواجهم، ولم يخف حالة المعاناة بل والقسوة العاطفية والنفسية لبطلاته البسيطات الواعيات لخيارات الأقربين لهم، بل والاستعداد للتضحية بحاجاتهن ورغباتهن الإنسانية العامة والخاصة. فكانت زهرة ومحسنة وثريا، علامات وجع وتأملات وآمال وعلامات فرح واستبشارات. ومما عزز وجهة الرواية الإنسانية بلا افتعال إيراده لحالات ومواقف الحب الإنساني والحاجات الإنسانية الأخرى، بلا إسفاف أو خروج عن الحدود الأخلاقية، التي وضع الراوي نفسه في إطارها. لقد حول العتابي قرية العطراني في روايته إلى مسرح وبدت رمزاً لوطنٍ عانى وما يزال، في تطلعه للخير والعيش الرغيد. وأظهر أحد أبرز شخوصه، محمد الخلف وابنه خالد مناضلاً إنساناً في تحركاتهما ومشاعرهما وعبر نقاط ضعفهما ولحظات خوفهما الإنساني، رغم الصلابة في مواصلة العمل على نهج المبادئ. وأظهر عبر نساء روايته تلخيصاً لمعاني كبيرة لدور المرأة العراقية في المدينة والريف، ليس فقط في النضال المباشر، وإنما وأيضا في تواصل الحياة بكل أبعادها.
وأخيراٍ أقول بصدق وبلا افتعال أو تزويق، أن رواية العتابي (منازل العطراني) سجلت تواصلاً مؤثراً مع مسيرة وتاريخ الرواية وفن السرد في العراق وفي المنطقة العربية., وهي تشكل نقطة لامتداد تطوري أي هي عودة للمسار التطوري بعد زمن انقطاع مر به وطننا في كل ميادين الإبداع.
فشكراً لهذا الجنس من الأدب الملتزم، وشكر لمن فسح لي في المجال للتمتع بنص روائيٍ جميل... شكراً للمبدع جمال العتابي وآمل له المواصلة على طريق انعاش حياة العراق والعراقيين وفي مسار (إعادة الوعي والروح) لشعبنا نحو آفاق أرحب ... !!!.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

بين إرث ما بعد الدراما وعودة السرد "مسرح أوروبا معقلا ونموذجا"

موسيقى الاحد: موتسارت الاعجوبة

من منسيات النقد الأدبي في العراق

طقوس فارسية .. علامة فارقة في الأدب الإيراني

صلاح عباس: على مدى تاريخ الحقب الصدامية لم يشكل فن الحرب ظاهرة مميزة مثلما موجود في العالم

مقالات ذات صلة

الفلسفة ركيزة اساسية للذكاء الإصطناعي
عام

الفلسفة ركيزة اساسية للذكاء الإصطناعي

أنتوني غريلينغ* ، بريان بول** ترجمة: لطفية الدليمي أعلنت شركة OpenAI مؤخرًا أنّها تتوقّع مَقْدَمَ «الذكاء الفائق Superintelligence" - أي ذكاء اصطناعي يفوق القدرات البشرية - خلال هذا العقد ( العقد الثالث من القرن...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram