نزار عدنان جواد
"اعتقد ان كل جيل محكوم عليه ان يخوض حروبه، ويتحمل خسارة نفس الأوهام القديمة، ويتعلم نفس الدروس القديمة بنفسه" - فيليب كاوبوتو
من بين العديد ممن تناولوا موضوعة الحرب في أعمالهم، يبرز الروائي العراقي، المقيم في ألمانيا، نجم والي واحدا من أهم الكتّاب الذين عالجوا مسالة الحرب في كتاباتهم، فقد عُرفت روايته الاولى " الحرب في حي الطرب" و التي كتبها في اواسط الثمانينات، بأنها واحدة من اوائل الروايات التي جسدت مآسي الحرب العراقية الإيرانية والتي امتنعت معظم دور النشر العربية آنذاك، عن نشرها، لكون تلك الدور اعتمدت على دعم النظام العراقي، والمفارقة انها صدرت بترجمتها الألمانية اولا و لم تنشر بلغتها الأصلية إلا في بداية التسعينات بعد غزو العراق للكويت.
الرواية التي هي موضوع المقال، هي رواية بغداد- مالبورو، التي صدرت بطبعتها الأولى عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر عام ٢٠١٢، وحازت على جائزة برونو كرايسكي العالمية عام ٢٠١٤. في البدء علينا الولوج الى عالم رواية بغداد- مالبورو، عبر عتبة النص الأولى: العنوان. يحمل عنوان الرواية دلالة رمزية نجح الكاتب في توظيفها لخدمة النص. فرغم أنه يبدو للوهلة الأولى ذا دلالة مكانية، بالأخص إلى القارئ غير العراقي، مشيرًا إلى موقعين: بغداد ومالبورو، لكن بالنسبة للقارئ العراقي، يكتسب العنوان دلالة محلية، حيث ترمز الكلمتان إلى ماركتين سجائر رائجة في عراق ثمانينات وتسعينات القرن الماضي. الأولى تمثل السجائر المحلية الصنع، الثانية تشير إلى الماركة العالمية المعروفة. بدا اختيار العنوان دالًا بذكاء، تجاوز معناه السطحي ليصبح مدخلاً لفهم أعمق للعلاقة المعقدة التي ربطت شخصيات الرواية الرئيسية. يحمل في طياته إيحاءات محلية، لكنه يشير أيضاً إلى مقارنة ثقافتين: عراقية وأمريكية، ونمطين اجتماعيين متباينين. هذه الفوارق تجلت بوضوح في ثنايا النص، ولاسيما خلال العلاقة التي ربطت بين الجنديين سلمان ماضي، الشاعر العراقي البوهيمي، والأمريكي ديڤيد باربيرو. احدى أوجه علاقة الصداقة تلك تجسدت في تبادل السجائر بينهما حين وقع سلمان في الأسر خلال حرب الكويت، غير أن ما كان يجمعهما في الواقع كان عشقهما للشعر وبالأخص لقصائد الشاعر الأمريكي والت ويتمان.
تدور أحداث الرواية حول الشخصية المحورية، رجل عراقي في منتصف الخمسينات، يعيش في منزله اثناء فترة الحرب الطائفية في أول سنوات الاحتلال الأمريكي. وتبدأ الاحداث عندما ندرك أن شخصاً امريكياً يدعى دانيال بروكس وصل بغداد بحثًا عن ذلك الرجل تحديدا. يتضح بعدها ان بروكس عثر على دفتر يوميات ومجموعة رسائل كتبها سلمان ماضي، لكنها لم تصل إلى صديقه في بغداد خلال حرب الكويت. بعد سقوط النظام قرر بروكس السفر إلى العراق للقاء الرجل المعنونة له الرسائل.
اختار الكاتب، وبذكاء مدروس أن يبقي اسم الشخصية الرئيسية غامضًا، ليمنح القارئ فرصة تخيل نفسه في موقع هذه الشخصية. هكذا، يمكن لآي قارى استحضار تجربته الخاصة، ويصبح جزءًا من سردٍ أكبر، يختصر فيه مأساة الواقع العراقي. بتصاعد الأحداث والتعمق في تفاصيل الحبكة، يتبين لنا أن الشخصية الرئيسية طبيب بيطري، دخل الجيش بعد تخرجه برتبة ضابط وتمتع بامتيازات، نظرًا لتمتع عشيرته بقربها من النظام آنذاك. مع ذلك، لم يكن يؤمن بأي انتماء مناطقي، عشائري أو ديني، وتجلى هذا بالصداقة الوثيقة مع سلمان، الشاعر البوهيمي، والجندي المكلف الذي كان تحت إمرته، والذي ينحدر من عائلة فقيرة من الناصرية جنوب العراق. يجمع بينهما شغف الشعر والرواية، إلى جانب أحاديث الليالي الطويلة التي قضياها معًا على جبهات القتال عند حدود إيران. تتواصل الصداقة مع سلمان بعد انتهاء الحرب، لكن الأحداث تأخذ منحى مأساويًا عندما يُساق سلمان إلى حرب الكويت، لتنقطع الاخبار بين الاثنين.
يتعرض سلمان ماضي الى صدمة شديدة غيرت مجرى حياته، عندما يُجبر على تنفيذ أوامر بقتل أسرى أمريكيين، من بينهم صديقه ديڤيد باربيرو، بعد ان جمع الاثنين حب التدخين وعشقهم لشعر والت ويتمان. تترتب على هذه الفاجعة تغييرات كبيرة في حياة سلمان، ويبدأ بمواجهة اكتئاب حاد وأعراض "اضطراب ما بعد الصدمة"، يترك زوجته، نخيل، وولده، ليقضي بقية أيامه في فندق بائس في منطقة الميدان ببغداد، مدمناً على الخمر ومنقطعاً عن العالم الخارجي.
بعدها، ينتقل الكاتب إلى الجانب الآخر لنتعرف على الشخصية الرئيسية الثانية، دانيال بروكس، الجندي الأمريكي الأسود، والمتحدر من عائلة فقيرة في الجنوب الأمريكي. تتملك بروكس مشاعر اغتراب نفسي أبعدته عن مجتمعه. فقد والده في حرب فيتنام، وعانى من التمييز العنصري طيلة حياته وكان شغوفا بالقراءة والتعلّم، تعلم اللغة العربية أثناء فترة وجوده في المملكة السعودية جندياً في قاعدة أمريكية منذ الثمانينات. يواجه بروكس مصاعب جمة خلال فترة إقامته هناك، تحت سلطة الضابط العنصري راي برنس، في سياق التحضيرات لحرب الكويت. بعدها يتعرض لصدمة في الحرب (تلازمه حتى اختطافه على أيدي ميلشيا ارهابية في العراق بعد ٢٠٠٣)، حيث يؤمر بقتل أسرى عراقيين في حفر الباطن، ويُدفنون في مقبرة جماعية في الصحراء. تغير هذه المأساة مجرى حياته وتقوده لاحقاً لإعتناق الإسلام وتزوج تونسية تعرّف عليها عندما كانت تعمل في بعثات الامم المتحدة. يبدأ بروكس بالتكفير عن ذنبه، بجمع التبرعات في أمريكا لإرسالها إلى الأيتام والأرامل العراقيين فترة الحصار الاقتصادي.
بالإضافة إلى الشخصيات الرئيسية التي تمثّل بؤرة الاحداث، برزت شخصيات اخرى "مسطّحة"، تجلّت بصورة الأضداد (Antagonists) للشخصيات الأساسية. تجسّد ذلك بشخصية الضابط راي پرنس، الامريكي العنصري، حيث كان نقيضا لشخصية بروكس. كذلك، نجد الضابط العراقي حيدر ملّا كريدي الذي يكنّ حقداً لسلمان ماضي، وهو الذي أمره بقتل الاسرى الامريكان. هناك شخصيات اخرى مكملّة ساهمت بشكل او بآخر بصياغة الاحداث ونمو الحبكة في النص، بعضها لعب دورا محورياً في سير الاحداث، وبالتحديد وليم سركيس، الجندي الذي خدم في حرب الثمانينات، ليصبح معوقًا بعد إصابة، تركته قعيد كرسي متحرك. وهو الشخصية الوحيدة المتبقية من عائلة مسيحية هاجرت من العراق، ويدير بارًا في الميدان، حيث يصبح صديقه القديم سلمان، وكذلك الشخصية الرئيسية، من رواد البار بعد عام ٢٠٠٣. ثم يأتي عماد عقراوي، الصديق الكردي الذي أنهت الحرب حياته مبكرًا، ونهاد خليل، الصابئي المندائي الذي برز دوره في نقل رسائل سلمان من جبهة حرب الكويت إلى الشخصية الرئيسية. كما تساهم شخصيات ثانوية أخرى في رسم صورة مروعة للحرب، مثل المقاول اللبناني الانتهازي الذي يستغل صفقة تجهيز القوات الأمريكية في المعسكرات السعودية بالمواد الغذائية. كما تحتل الشخصيات النسائية مكانة بارزة، حيث يبرز الكاتب معاناتهن وقصصهن لتقديم رؤية أوسع لمأساة العراق. تتجسد هذه المعاناة في شخصية أحلام، صديقة سلمان، فتاة بريئة تتعرض للاعتداء من قبل رجال السلطة، أمر يؤدي بها إلى الجنون ورغبة بالانتقام تنتهي بمأساة. كذلك، نجد شخصية نخيل، زوجة سلمان وأم ولده الوحيد، التي ظلت مخلصة له، تُكابد من اجل العيش وتربية ولدها الوحيد. وقد نجح الكاتب في تجسيد شخصية نخيل كرمزٍ معبّر عن معاناة نساء العراق بل عن آلام المجتمع بأسره في صور بدلالات رمزية عميقة، تبدأ من اسمها وتنتهي بسيرتها الأليمة في مجتمع أنهكته الحروب:
"أحب النخلة هذه التي تقف شاهداً على قدري وما ينتظرني أو ما ينتظرنا من موت."
وفي خضم اجواء الرواية المفعمة برائحة الحروب والموت، قدّم لنا الكاتب مشاهد ذات معنى إيحائي، مثال ذلك، رمزية التناظر بين الجنود والبغال والحمير في جبهات القتال، حيث كانت الشخصية الرئيسية في الرواية مسؤولة عن استخدام البغال والحمير كقرابين تُقاد إلى حتفها في حقول الالغام.
حتى الحمير رأيتها تنتحر على الجبهة العراقية الإيرانية بينما كان شعراء الجبهة الشرقية يلهبون الحماس بقصائدهم، لا حناجرهم بُحَّتْ من ترديد النشيد تلو النشيد، ولا أيديهم تعبت من قرع طبول الحرب.
يمكن القول ان رواية بغداد-مالبورو تمزج بين الرمزية والواقعية، وهي نص ابداعي متخيل اعاد صياغة المأساة وانتاجها عبر السرد، حيث نجح الكاتب بتسليط الضوء على واقع حروب العراق وإعادة النظر لمأساويتها. رؤية الكاتب هنا أضافت طاقة متجددة للنص من خلال فحص ذلك الواقع بأعين شخصيات الرواية المتعددة وانفتاح فضاءات حكاياتهم على بعضها. تقنياً، لم تتبنّ الرواية أسلوب تعدد الأصوات، إلا ان السرد تأتّى عبر الشخصية الرئيسية في الحكاية، في حين تبنّى الراوي سرد باقي الاحداث والشخصيات. من الملفت للنظر أن أغلب روايات نجم والي، من ضمنها هذه الرواية، تُبرِزْ شخصية غامضة تقبع في الخفاء في ثنايا النص تتولّى مراقبة الاحداث وتوثيقها لتكون شاهدا على المأساة، دون ان تلعب دوراً رئيسياً في الحبكة وتطورها، أنها شخصية هارون والي (وهي إشارة واضحة للكاتب نفسه)، والمقصود هارون "الحكائي" وليس أخاه موسى "الصورة" كما روت الكتب المقدسة وهذا موضوع يحتاج وحده لوقفة دراسية خاصة. لقد تبنّى نجم والي هذا الأسلوب في روايات اخرى اهمها، "صورة يوسف" و"ملائكة الجنوب" و"إثم سارة" و"سعاد والعسكر". ومن مميزات أعمال والي عموما هو اهتمامه بموضوعة الهامشية كونها تشير الى نفي الوجه المتسلِّط في المركزيَّة.
قراءة في " بغداد-مالبورو " للروائي نجم والي
"طالما هناك عراق، ستكون هناك حروب"

نشر في: 23 نوفمبر, 2025: 12:03 ص









