TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > قناديل: مطحنةُ إعلامٍ وسياسة

قناديل: مطحنةُ إعلامٍ وسياسة

نشر في: 23 نوفمبر, 2025: 12:05 ص

 لطفية الدليمي

يبدو المشهد العراقي اليوم أشبه بمطحنة عملاقة تبتلعُ هواءً وتحيله إعلاماً وسياسة. ما الذي ينتجه الخواء غير خواء أشدّ كثافةً من سابقه؟ عندما يستكينُ العراقي في المساء بعد صخب الإزدحام وجنون سائقي السيارات وضجيج الفضاء العام ستتناهبه عاصفتان: عاصفة إعلامية لا تهدأ، وعاصفة سياسية لا تعرف الرحمة. العاصفتان قبيحتان، تتخادمان في إطار لعبة متّفق عليها: في العاصفة الإعلاميّة يُساق العراقيُّ كلّ ليلة إلى برامج حوارية تلوك الوجوه ذاتها، وتعيدُ تدوير الأصوات التي لا تجيدُ شيئاً سوى استهلاك ما تبقّى من صبر العراقيين. في العاصفة الثانية نشهدُ طبقة سياسية تجهل معنى أن تكون مسؤولاً في بلد يقف على حافة الإنهيار الكارثي في القرن الحادي والعشرين؛ لكنها تتقن جيداً فنّ التآمر على نفسها، وعنادُها مستمرٌّ لا يكلّ في قتل أية بارقة أمل في نفوس العراقيين. بين العاصفتين يقف المواطن، ذاك الذي لم يَعُدْ يعرف أيهما أشدّ وطأة عليه: الإعلام الذي يلتهم روحه، أم السياسة التي تلتهم أيامه ومستقبله.
صار المواطنُ العراقي مادة أوّلية لإعلام بلا روح. في مساءات العراق حيث الكهرباء تتدلل في الحضور، وحيث الهواء نفسه يبدو مُثقلاً بالتعب وروائح الملوّثات، تتنافس الشاشات في تقديم برامج حوارية ليست أكثر من مطحنة كلام رميم، وكأنّنا في بازار لسوق أسهم يكون الحوار فيه غطاءً لسمسرة خفية. الجميع يفهمون اللعبة ويعرفون أسرارها وطرائق التربّح منها. المشهد الحواري صار معتاداً: محاورٌ يصرخ أكثر مما يتحدّث، ضيفٌ يريد أن يعلو صوتُهُ فوق اصوات الآخرين، وسياسيّ يعيد جملته المعتادة: "نحن مع الشعب، ونحن ضد الفساد" وكأنه لم يكن جزءاً من منظومة الخراب نفسها. صار من السهل علينا أن نرى المشهد من دون صوت:
حركة الشفاه هي ذاتها، الوجوه هي ذاتها، الإنفعالات هي ذاتها كأنّ الزمن في تلك البرامج ثابتٌ لا يتحرك، وكأن العراق كله محبوس داخل استوديو مظلم.
الإعلام العراقي لا يقدّم شيئاً بل يلتهم أشياء: يلتهم وقتنا، أعصابنا، قدرتنا على الحلم، وحتى قدرتنا على الضحك. مقدّمو البرامج الحوارية في عمومهم ناقصو تدريب وخبرة وثقافة، ليسوا صحفيين متمرّسين بمعنى الصحافة، ولا إعلاميين خبروا معنى المهنة الإعلامية. كثيرٌ منهم أشبه بـمديري بازار صاخب، يهمّهم أن يرتفع صوتهم، وأن يعرف الجمهور أسماءهم، وأن تسطع الاضواء على وجوههم. بعضهم يظنُّ -في تمثّل فجّ لبرنامج الإتّجاه المعاكس سيئ الصيت- أنّ الإثارة تُصنَعُ بالصراخ، وأنّ طرح الأسئلة يعني حشر الضيوف في الزوايا، وأنّ الكلمات الطنّانة على شاكلة (الديمقراطية، الإصلاح، السيادة) محضُ أدوات لإغراء السياسيين بالعودة للبرنامج مرّة أخرى. في كثير من الأحيان لا يطرحُ مقدّم الحوار سؤالاً بقدر ما يقوم بعرض (أناه) أمام الكاميرا: يستعرض، يتمطّى، يبتسم في لحظة لا تستحقُّ الإبتسام، ويبدو وكأنه جاء ليعلن عن نفسه أكثر مما جاء ليخدم الحقيقة. دعوني أؤكّد: عندما أقولُ (مقدّم الحوار) فأنا أعني مقدّماً او مقدّمة، والمقدّماتُ مخصوصاتٌ بالنقد أكثر من المقدّمين وبخاصة في الإستعراض الإعلامي . إنهم في الكثرة الغالبة منهم جيلُ الإعلاميين الذين لا يعرفون شيئاً عن الإعلام. جيلٌ لا يقرأ، لا يراجع، لا يحلّل؛ بل يكتفي بما يسمعه قبل دقائق من مدير الإعداد، ثم يقف أمام الكاميرا ليعيد إنتاج جهل يجاهدُ أن يكون منسّقاً ومهذّباً، ولن يستطيع مهما حاول إلى ذلك سبيلاً. اذا كان الإعلام يلتهم أرواحنا فإن السياسة تذهب أبعد من ذلك: إنّها تقتلنا ببطء. السياسة في العراق ليست مشروعاً، ولا رؤية، ولا إدارة دولة. إنّها في كثير من الأحيان ساحةٌ مفتوحةٌ لتصفية الحسابات داخل الطبقة السياسية نفسها، وليست مساحة لبناء شيء يستحقُّ البقاء. السياسيون يلتقون ببعضهم كما يلتقي الخصوم الذين يعرفون جيداً أنّهم محكومون بالجلوس حول الطاولة ذاتها لكي يعظّموا أنصبتهم من فيوض العراق المالية ويديموا موائدهم العامرة منها. يضحكون أمام الناس، يبتسمون في المؤتمرات، يتبادلون كلمات مجاملة على الشاشات؛ لكنهم - خلف الأبواب - يتربّصون ببعضهم، ينسجون المؤامرات الصغيرة والكبيرة، ويحسب كلُّ فريق كم يمكن أن يربح هو و يخسر الآخر. في بلدٍ يقف في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين، حيث يتجه العالم نحو الاستثمار في الذكاء الاصطناعي والطاقة المتجددة واقتصاد المعرفة، نجد أنفسنا أمام طبقة سياسية لا تزال تتعامل مع الدولة كأنّها غنيمة، ومع السلطة كأنّها إرث قَبَليّ، ومع الشعب كأنّه مجرد رقم لا يغيّر في معادلة الحُكم شيئاً.
بين فكّي جهالة سياسية نابعة من أنفس مأزومة، وعبث إعلامي غارق في لجّة الفجاجة الإستعراضية، يرادُ للإنسان العراقي أن يعيش مأساة كاملة الأركان. قد يستطيع بعضُ العراقيين تجاوز هذا التخادم بين الجهالة السياسية والنزعة الإستعراضية الإعلامية بأن يستغرق في قراءة كتاب؛ ولكن ليست القراءة فرضاً مكتوباً. يبتغي البعض تسلية بريئة، ولا ضير في هذا. سيكون البديل عن هذا التخادم القبيح مزيداً من الأوقات المسفوحة بلا طائل في المقاهي، أو المولات، أو الثرثرة الطائشة.
ماذا بمستطاع العراقي فعلُهُ إزاء هذه المطحنة اليومية؟ يستطيع أن يفعل الكثير . يستطيع ان يختار ما يشاهد؛ فهو ليس متلقياً عاجزاً.
لا يحتاج العراقي إلى تدوير السخف عبر مشاهدة برنامج يشمّ منه رائحة الإبتذال، ولا أن يخسر دقيقة من عمره في حوارية تافهة بين سياسيَّين ومقدّمي برامج يعرف جيداً أنّ كلامهم محضُ دخان. ثمّ هناك وجوبُ التحصّن بالمعرفة الحقيقية. المعرفة ليست رفاهية في العراق؛ إنها سلاح.
من يقرأ، من يطالع، من يبحث في مصادر ثرية ورصينة لن تضلله البرامج التافهة، ولا يستطيع السياسي أن يسوقَهُ بكلمتين منمّقتين. حتى قراءة يومية صغيرة، وحتى متابعة تحليلات رصينة من خارج الحلقة المشهدية المكرورة، تخلق فرقاً، وتصنع مسافة آمنة بين المواطن وبين ماكنة التضليل والسخف الإعلامي. ثمّ علينا أن لا نتناسى مقدرة العراقي على خلق (منصّته) الخاصة بفضل الثورة التقنية. لم يعد العراقي بحاجة إلى القنوات التلفازية وحدها. هناك فضاءات أوسع وأكثر حرية: منصات رقمية، صفحات مستقلة، بودكاستات، مبادرات شبابية، فضاءات تفكير صغيرة لكنها صادقة. يمكن لإنسان واحد أن يغير وعي مئة، ومئة يمكنها أن تغير وعي ألف. هكذا يبدأ التغيير: من الأصوات الحرة، لا الأصوات المشتراة.
السياسيون العراقيون يعيشون ويتغذّون على شيء واحد: يأس الناس.
كلّما شعر المواطن أن لا شيء سيتغيّر، تمدّدت الطبقة السياسية أكثر، وازدهرت مصالحها، وارتاحت ضمائرها الصخرية الميّتة. التغيير يبدأ غالباً من قرار واحد: "لن أسمح لأحد أن يقتل أملي".
العراق بلد يدمر الأعصاب، والإعلام الرديء يزيد الطين بلة؛
ولذلك لا بد من شيء بسيط لكنّه جوهري:
الراحة النفسية ليست ترفًا. إنها ضرورة لإنقاذ الوعي. لا بدّ من نزهة قصيرة، قراءة ممتعة، جلسة هادئة مع الأصدقاء، صحبة نافعة… .
هذه الملاذات ليست هروباً بل ترميم للروح حتى لا تتحوّل إلى رماد الفجيعة. من الضروري أن يتذكّر العراقيّ أنّ له صوتاً مؤثرا مهما بدا ضئيلاً. صوت الفرد قد يبدو ضعيفاً وسط الصخب؛ لكنّ تراكم الأصوات هو ما يصنع القطيعة التاريخية عن زمن رديء يرادُ له الإستمرار من غير مسوّغات حقيقية.
لن يتغيّر الإعلام غداً. نعلم هذا ولنا في تجارب سابقة دروسٌ نتعلّم منها، كذلك لن تستيقظ السياسة فجأة وقد أصبحت مرشّدة. هذا وهمٌ لن نقع في حبائل خديعته. لكن العراقيّ الذي لا يعرف المخاتلة ويريد رؤية عراق ناهض يمكنه أن يرفض ما يُفرَضُ عليه، وأن يحمي عقله من الضوضاء، وأن ينشئ ملاذ سكينته الخاصة، وأن يواجه السياسة بلا خوف، وأن يدافع عن الدولة لا عن السياسي، وأن يُصلح أعطاب روحه كلما انكسرت. ربّما بهذه الوسائط يستطيع العراقي أن يمكث خارج نطاق المطحنة،
ويبقى إنساناً غير مقزّم، لا هواءً يديمُ عمل مطحنة إعلام عابث وسياسة فاشلة.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق الدولي للكتاب

الأكثر قراءة

العمود الثامن: سياسيو الغرف المغلقة

العمود الثامن: ماذا يريدون؟

السردية النيوليبرالية للحكم في العراق

العمود الثامن: عاد نجم الجبوري .. استبعد نجم الجبوري !!

العراق إلى أين ؟؟

العمود الثامن: من كاكا عصمت إلى كاكا برهم

 علي حسين كان العراقي عصمت كتاني وهو يقف وسط قاعة الجمعية العامة للأمم المتحدة، يشعرك بأنك ترى شيئا من تاريخ وخصائص العراق.. كان رجل الآفاق في الدبلوماسية وفي السياسة، حارساً لمصالح البلاد، وحين...
علي حسين

قناطر: بغداد؛ اشراقةُ كلِّ دجلةٍ وشمس

طالب عبد العزيز ما الذي نريده في بغداد؟ وما الذي نكرهه فيها؟ نحن القادمين اليها من الجنوب، لا نشبه أهلها إنما نشبه العرب المغرمين بها، لأنَّ بغداد لا تُكره، إذْ كلُّ ما فيها جميل...
طالب عبد العزيز

صوت العراق الخافت… أزمة دبلوماسية أم أزمة دولة؟

حسن الجنابي حصل انحسار وضعف في مؤسسات الدولة العراقية منذ التسعينات. وانكمشت مكانة العراق الدولية وتراجعت قدراته الاقتصادية والسياسية والعسكرية، وانتهى الأمر بالاحتلال العسكري. اندفعت دول الإقليم لملء الفراغ في كواليس السياسة الدولية في...
حسن الجنابي

إدارة الاقتصاد العراقي: الحاجة الملحة لحكومة اقتصادية متخصصة

د. سهام يوسف بعد مصادقة المحكمة الأتحادية على نتائج الانتخابات الأخيرة، يقف العراق على أعتاب تشكيل حكومة جديدة. هذه الحكومة ستكون اختبارًا حقيقيًا لإصلاح الاقتصاد العراقي المتعثر، حيث تتوقف عليه قدرة البلاد على مواجهة...
سهام يوسف علي
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram