بغداد – تبارك عبد المجيد
لم تكن الأمطار التي هطلت على بغداد وعدد من المحافظات مجرد حالة جوية عابرة؛ فقد كشفت خلال أيام قليلة هشاشة البنية التحتية وصراع المدن مع تغير المناخ. شوارع غارقة، مركبات عالقة في زحام لا ينتهي، ومشاهد تتكرر كل عام مع أول موجة مطر، فيما تتصاعد الأسئلة حول قدرة مؤسسات الدولة على تحويل هذه الأمطار إلى رصيد مائي يحمي البلاد من شبح الجفاف. ومع استمرار تأثير المنخفض الجوي بحسب توقعات الأنواء الجوية، تجد الجهات المعنية نفسها أمام اختبار حقيقي: كيف يمكن استثمار هذه الكميات من الأمطار في وقت يعاني فيه العراق من واحد من أكثر المواسم جفافًا في تاريخه القريب؟
غياب التخطيط!
وانتقد مرصد العراق الأخضر غياب أي رؤية واضحة لدى الجهات المعنية لاستثمار موجة الأمطار الأخيرة، محذرًا من ضياع فرصة مهمة لمعالجة عدد من الملفات المائية الحرجة.
وقال عضو المرصد عمر عبد اللطيف لـ”المدى”، إن على وزارة الموارد المائية توجيه كميات الأمطار التي هطلت خلال الأيام الماضية نحو ثلاث أولويات عاجلة، في مقدمتها معالجة اللسان الملحي في البصرة، الذي ما زال يهدد حياة السكان ومصادرهم المائية. ويرى أن الأمطار تمثل فرصة لملء السدود والخزانات والنواظم التي انخفضت مناسيبها إلى ما دون 4٪، فضلًا عن إنعاش الأهوار التي تعرضت لتدهور كبير خلال الصيف وما سبقه.
وأوضح عبد اللطيف أن كميات الأمطار الأخيرة رفعت مناسيب نهر دجلة بشكل طفيف بعد الانخفاض الكبير الذي سجلته الأسابيع الماضية، إلا أن الوزارة ما تزال – بحسب قوله – متكتّمة على خطتها في كيفية استثمار هذه الزيادة، وما إذا كانت قد أسهمت فعليًا في تعزيز الخزين المائي.
كما لفت إلى أن الموجة الثانية من الأمطار يُتوقّع أن تتأخر لنحو أسبوعين أو ثلاثة، وستكون أقل غزارة في أغلب المحافظات، باستثناء المناطق الشمالية وواسط التي قد تشهد سيولًا وفيضانات مشابهة لما حدث في الموجة الأولى.
وذكرت وزارة الموارد المائية أن الموجة المطرية الأولى التي هطلت على البلاد أسهمت في تعزيز الخزين المائي بـ(250) مليون متر مكعب. وقال المدير العام للهيئة العامة لمشاريع الري والاستصلاح والمتحدث باسم الوزارة، خالد شمال، في حديث اطلعت عليه “المدى”، إن “الأمطار تجاوزت المعدلات الطبيعية في معظم المحافظات، باستثناء أجزاء من المناطق الوسطى والشمالية”، مبينًا أن “الوزارة استثمرت الأمطار الهاطلة شمال سامراء وحديثة في تعزيز مخزون السدود، بينما دعمت الأمطار جنوبها الغطاء الرعوي وتثبيت التربة وإعادة شحن المياه الجوفية، ما أسهم في تقليل الاعتماد على ضخ المياه من بحيرة الثرثار”. وأكد شمال أن “الوزارة تعمل بتناغم مع وزارة الزراعة لتنفيذ الخطة الشتوية، بالاعتماد على ثلاثة مؤشرات رئيسة، هي المخزون المائي في السدود، والإيرادات الفعلية بما فيها الأمطار والمياه الجوفية، ومتغيرات السوق العالمية للمحاصيل الإستراتيجية”.
الأمطار لن تغيّر المشهد!
يقدم الخبير المتخصص في شؤون المياه والزراعة تحسين الموسوي صورة للمشهد المائي في العراق بعد الأمطار الأخيرة، موضحًا أن ما شهدته البلاد من هطول لا يرقى إلى مستوى قادر على تغيير الواقع الحرج الذي تعيشه الموارد المائية. فالأمطار، كما يقول، كانت قليلة جدًا وجاءت متأخرة بالنسبة للموسم الزراعي، في وقت تشير فيه التنبؤات إلى أن هذا العام يتجه ليكون عامًا جافًا بفعل تأثيرات التغير المناخي والتطرف المناخي الذي لم يعد بالإمكان التنبؤ به بدقة، إذ قد تتواصل حالات الجفاف أو تتحول فجأة إلى سيول وأمطار غير منتظمة.
وبحسب الموسوي، فإن كميات الهطول التي سُجّلت في بعض المحافظات، مثل ثمانية مليمترات في ديالى وأكثر من ثلاثين مليمترًا في نينوى، تبقى دون المستوى المطلوب، ورغم وجود توقعات بأمطار في الأسبوع المقبل وربما في شهر كانون الأول، إلا أنها ليست من النوع الذي يجعل الموسم رطبًا.
ويؤكد أن الوضع المائي في العراق لا يزال في دائرة الخطر، بل إن البلاد دخلت مرحلة الندرة المائية وليس مجرد الجفاف، وهو وصف يعكس حجم الأزمة التي تمر بها خزانات المياه الاستراتيجية التي وصلت إلى أخطر مستوياتها.
ويوضح الموسوي لـ”المدى”، أن الاستفادة من مياه الأمطار ممكنة فقط في حال كانت في مقدمة السدود، أما إن جاءت بعد امتلائها فستكون فائدتها محدودة باستثناء دعم المياه الجوفية وتجديد المراعي الطبيعية، وهي مكاسب لا تغير الصورة العامة. ويضيف أن المشكلة الجوهرية لا تتعلق بالمناخ وحده، بل ترتبط أيضًا بسوء إدارة الموارد المائية، مؤكدًا أن الخلل يشمل جميع الجهات المعنية وليس وزارة الموارد المائية فقط، ما يجعل هذا الملف أحد أكبر التحديات أمام الحكومة المقبلة، خاصة في ظل غياب اتفاقيات ثابتة مع دول المنبع وعدم تغيير السياسات المائية التي أوصلت البلاد إلى هذا الوضع.
ويشدد الموسوي على أن العراق يحتاج اليوم إلى الاستفادة من كل قطرة ماء، سواء عبر حصاد الأمطار أو إعادة تدوير المياه أو الضغط على الدول المتشاطئة لإطلاق حصص عادلة، إضافة إلى تغيير أنماط الاستخدام الداخلي التي يرى أنها متأخرة جدًا.
وينتقد في هذا السياق خطة زراعة مليون دونم بالاعتماد على المياه السطحية والمياه الجوفية، معتبرًا إياها خطوة غير مدروسة وخطرة في ظل خزين مائي يقل عن أربعة مليارات متر مكعب، مشيرًا إلى أن وزارة الموارد المائية نفسها لم تكن مقتنعة بالخطة وربما وافقت عليها تحت الضغط، لأنها تكرر دائمًا أن الأولوية يجب أن تكون لتأمين مياه الشرب.










