سهيل سامي نادر
عندما نشرت مقالتي الأولى عن حفريات حمرين في صفحة "آفاق – الجمهورية"، وكانت عن المياه، أبدى مسؤول الصفحة محمد كامل عارف عدم رضاه عن المقالة. لقد اعتقد أنني غبت عن العمل 10 أيام من أجل تغطية حملة التنقيب في حمرين فإذا بي أكتب عن المياه وليس عن الآثار. كان حريصاً على نهج اعتمده في تحرير صفحة آفاق المسؤول عنها: الوقائع والوضوح واللغة المقتصدة الجميلة.وبسبب عدم وجود خطة عمل متفق عليها خشي من تحويل موضوع واقعي يتصف بأهمية وطنية إلى مادة تأمل ذاتية على طريقة العديد من الأدباء العراقيين الستينيين التجريدية التي لم يكن يحبها.
والحال أن مشروع الحملة العالمية لإنقاذ آثار حمرين انطلق من إنشاء سد حمرين الذي كان سيغمر بالمياه حوضاً واسعاً سكنته أقوام قديمة وتركت آثارها داخل التلال. لقد بدأت تحقيقي الصحفي من نقطة فاصلة وجوهرية إذن، فالتلال الأثرية في حمرين لاحقت خط المياه من أجل حياتها ونموها، في حين استخدمت مشاريع الحاضر المياه لتغرق آثار أجدادنا القدماء. لكل زمن خطة عمل إزاء المياه!
انفتحت مقالتي الثانية على العلاقة بين الآثاريين والمكان والسكن ، فبدأت خطتي في الكتابة تتضح، وأدرك محمد كامل عارف معها لعبتي الصحفية، بالأحرى روايتي التي تعتمد على النمو من المفاصل الحيوية التي تمتلئ بالدلالات المتنافرة. كنت أفكر في الحقيقة مثله ، بالاعتماد على تحديدات انطلق منها ومن ثم التفاصيل والوضوح ثم أمسك بنهاية لا تخلو من تأمل شخصي. اعتذر مني وقال لقد فهمتك!
كانت تلك طريقته إذن، وكانت سهلة أو صعبة، الا أنها طريقته التي لا تحيد عن الوضوح وقول الأشياء باختصار وذكاء!
إن مفتاح العمل عند محمد كامل عارف هو الوضوح ، وانفتاح المعلومات على الأفكار والأهداف والروابط ما بينها، وإمساك ما يُراد قوله بلغة مفهومة، مع حيوية الأسلوب ونشاط اللغة.
كان محمد مشروع قاص وروائي، نشرت مجلة الآداب اللبنانية بعض قصصه القصيرة، ولست أعرف بالضبط لماذا تخلى عن هذا المشروع مع امتلاكه كل مؤهلاته. لم أسأله، إذ كان قد توغل في الصحافة ليس كمحرر وكاتب ممتاز حسب بل ومخطط وصاحب برامج في الإدارة الصحفية أيضا. تميزت إدارته لقسم التحقيقات في مجلة "الف باء" في أعدادها الأولى بولادة تحقيقات تتصف بالجدة وتناول مشكلات اجتماعية وثقافية منفتحة بأسلوب مثير.بسبب معرفتي بطريقته في العمل وثقافته المتعددة خمنت أن تخليه عن مشروعه كقاص نتج عن شعور منصف بمسؤوليته كمثقف إزاء مأزق بلداننا النامية وحاجاتها للتنمية والديمقراطية. لقد قدم الضرورة الموضوعية على ذاتيته وموهبته الأدبية، وبدا لي أن نهجه في الإدارة الصحفية شبيه بطريقته في الكتابة والتناول، فهو قبل كل شيء يحدد المشكلة التي يريد تناولها بوضوح شديد ثم تأتي التفاصيل تباعاً. كان مشبعا بالأرقام والمعلومات عن التاريخ الحضاري لبلده ومعرفة تفصيلية عن الملابسات السياسية التي جعلت العراق ما هو عليه، مؤمنا أن طريق التنمية صعب ومعقد إذا لم يتحرر البلد من التبعية، وإذا لم ترتبط مخططات التنمية بالديمقراطية وبالحرية الفكرية.
في العراق السبعيني الذي شهد تحولات كبيرة كان محمد كامل عارف من الصحفيين الذين كرسوا أنفسهم والصفحة التي يديرها لقضايا التنمية المستدامة لوجوه الحياة الاقتصادية والثقافية والعلمية، وأولى اهتماما كبيرا بالتعليم التقني من اجل اللحاق بركب التقدم .كان على نحو ما يرد بالخفاء على الاساليب الفردية في التعامل مع قضايا مهمة في الاقتصاد والسياسة والتعليم على الرغم من وجود مكاسب في هذه الحقول لا تنكر. على هذا النحو، ومخلصا لطريقته، اختار أن يعاركبصمت ما يراه سلبيا ورجعيا، ومشجعا بصوت مرتفع لكل إنجاز تحرري وتقدمي.
وعلى الرغم من استقلالية محمد كامل عارف وعدم انتمائه الى أي حزب، وجده النظام معاديا فقام بنقله مع مجموعة من الديمقراطيين إلى مؤسسة خدمية ومنعه من الكتابة، في عملية جرى فيها تبعيث الإعلام ومطاردة اليساريين والديمقراطيين.
وهو في خارج الوطن هربا من العسف بعد أن يئس من السياسة الاعتدائية للنظام ، ظلت عيناه معلقتان على بلده وظل يكتب عن تاريخه الحضاري.
مخلصا لطريقته في الفهم والسلوك، لم يؤثر إجراء نقله الى وظيفة إدارية والتضييق على حريته على مواقفه الوطنية العامة، فقد وقف ضد الاحتلال الأميركي، ليس دفاعاً عن النظام بل تأكيدا على قيم الوطنية والاستقلال الوطني وبقاء الدولة الوطنية في خدمة مواطنيها، مميزاً دائماً ما بين النظام السياسي والدولة.
عديد من الكتاب والأدباء نشروا في الصحافة، وبعضهم عمل فيها، محافظين على مكتسباتهم كأدباء، سالكين درب الأدب في السلوك واستخدام اللغة. أما محمد فجاء من الأدب ليصبح قائداً في الصحافة وتكريسياً عن وعي وإخلاص لمبدأ الواقع والتنمية والديمقراطية، مستخدما لغة سهلة في توضيح قضايا معقدة بالاعتماد على استقراء الوقائع ونمو الأفكار الداخلية الخاصة بالحقول التي اختارها .
في جريدة الجمهورية البفدادية قدم صفحة ثقافية سحرت جميع الكتاب والمثقفين واساتذة الحامعة والباحثين وسحبتهم إليها. صدرت صفحة "آفاق" يوميا، وأحسب أنها أول صفحة ثقافية عربية تصدر يوميا في جريدة عربية. إن إعداد صفحة ثقافية يومية أمر صعب بالنسبة لإدارة متكونة من شخص واحد، حتى بعد أن عينت مساعدا له.إلا انه ظل يصنع الصفحة على طريقته، ومن دون أن يفرض عليّقياساته.لقد استوعبت مبكرا طريقته وباتت طريقتي. وعلى عكس الهدوء الذي كان يتصف به بإعداد الصغحة والاتصال اليومي باساتذة الجامعة والمتخصصين لاستكتابهم في مختلف القضايا، كنت اراني مرتبكا من عمل يومي يستدعي البحث عن مواد نافعة ومقروءة. كان تقديم صفحة يومية بنفس الإيقاع والحماس في بلد تتغير فيه الرؤى وتستبدل بالشكوك يزيد الأمر صعوبة. كنت أعجب منه كيف يستطيع إدارة عمل معقد وحده لفترة طويلة. والحال كان محمد يضيف صعوبات أخرى في عمله،فهو يدقق بالمواد التي يختارها ، وكل صفحة عنده نتاج تنسيق بين المواد المحلية الرئيسية والمواد الأجنبية. والتنسيق عنده معني بالتنوع والاهتمام بالقضايا المحلية والدولية العاجلة، واختيار ما هو مهم وعاجل في الحقل الثقافي التنموي.كان تخطيط الصفحات عنده يستجيب لحاجات بلدنا الآنية، وعلى عكس المفاهيم التي سادت في الصفحات الثقافية التي تختزل الثقافة بالشعر والأدب والفن، كان هو من رسخ تقليد اخرى تجعل من جميع حقول المعرفة الإنسانية وحدة لا تقبل التجزئة، وبسبب تدريبه في حقول العلم والتكنولوحيا كان هذان الحقلان وعروض الكتب تحظى عنده بأهمية استثنائية. كانت لديه بعض التلخيصات التي تعطي لمحة عن طريقته في التحرير والاختيار : الواقع.. الراهن.. الحدث.. ما يجري!
طريقته تشكل شخصيته. ما زلت أربط بينه وسحر الكلمات الجميلة لأغنية غناها العديد من المطربين الاميركان والغربيين وانتهت قوية ومنتشرة بصوت فرانك سيناترا:
سأُفصِح عن موقفي، وأنا متأكد منه.
عشتُ حياةً حافلة . سلكتُ كل الطرق.
وأكثر من ذلك، وأكثر بكثير ... فعلتُ ذلك بطريقتي!












جميع التعليقات 1
فاطمه البياتي
منذ 3 أسابيع
عزيزنا كان اسطوره بالأدب والصحافه وترك اثرا كبيرا وكم نشتاق له ولكتاباته الحلوه ومجلسه الحلو الرحمه والسلام لروحه الطاهره