TOP

جريدة المدى > عام > محمد غازي الاخرس: أبحث عن لحظة الانسجام المفقودة أو لحظة إمساك المعنى بدون توسط الأشكال

محمد غازي الاخرس: أبحث عن لحظة الانسجام المفقودة أو لحظة إمساك المعنى بدون توسط الأشكال

يرى أن ثمة تناقض بين الانهماك بتقصي الواقع وبين اللجوء الى الفانتازيا عندما يكتب في الأدب

نشر في: 25 نوفمبر, 2025: 12:01 ص

حاوره: علاء المفرجي

الباحث والروائي محمد غازي الأخرس، ولد في ببغداد. ودرس فيها، حصل على شهادة البكلوريوس في اللغة الفرنسية عام 1994 ثم على شهادتي البكلوريوس والماجستير في الأدب العربي، ولقد كتب الشعر منذ ثمانينيات القرن الماضي، وله ديوان عنوانه «شمعون» صدر عام 1997 بطريقة الاستنساخ، ونشط في المقالة والنقد منذ منتصف التسعينيات، وكانت أفكاره تلقى قبولاً واسعاً لدى العراقيين. وألّف عدة كتب تناولت الواقع الثقافي في العالم العربي، والعراقي تحديداً، كان أهمها «خريف المثقف في العراق» الذي أحدث جدلاً في الوسط الثقافي، رغم أنه نال من الثناء أكثر مما ناله من الانتقاد.,.اهم مؤلفات: خريف المثقف في العراق، كتاب المكاريد، دفاتر خردة فروش، كتاب الشقاق، كشكولل الاخرس، قَصّخون الغَرَام ، وأخيرا رواية مخطوط فيصل الثالث حاورته المدى للحديث عن محطات ابداعه
حدثنا عن المصادر والمراجع التي أسهمت في تشكل شخصية محمد غازي الاخرس حياتيا وأدبيا، (حيوات، أحداث، أماكن) منذ الطفولة والنشأة الأولى.
- كثيرة بل كثيرة جداً هي المصادر التي شكلتني وحددت ملامحي. في غرفة أبي المطلة على الحديقة الجانبية، في بيتنا بجميلة الثانية، كانت هناك نافذة طولية عرضها أقل من متر وطولها متران. كانت كتب أبي تصطف وتزدحم فيها. تقع النافذة في زاوية، وكنت أجلس عندها يومياً، أقلب تلك الكتب بدهشة للآن لم تزايلني. كانت أمي تحذرني وتطلب منّي ألا أعبث بها، لكنني كنت أتيه معها كطفل يبحر في سفينة بحثا عن كنز مفقود. من بين تلك الكتب، أتذكر كتباً سميكة فيها صورة رجل ملتح. لاحقا عرفت إنه كارل ماركس. كنت أظنه رجل دين. في المكتبة أيضاً، صادفت أعداداً كثيرة من مجلة (التراث الشعبي). لم أكن أفهم منها شيئاً، فقد كان عمري لا يتجاوز العشر سنوات، إلا أنّ خيالي استثير بقراءة مجموعة قصصية لنجيب محفوظ عنوانها (بيت سيء السمعة)، لأول مرة أشعر أن هناك حياة تدبّ في الأوراق.
إضافة لتلك المكتبة، كانت الحياة نفسها مصدرا من مصادر معرفتي. كنت أتنقل بين بيئتين متمايزتين ففي الشتاء كنت أعيش في بيتنا بجميلة الثانية، التي هي جزء من بيئة مدينة الثورة (الصدر). وفي العطلة الصيفية أقضي أيامي في بيت جدي بمنطقة الشيخ عمر حيث ولدت. البيئتان متمايزتان، في الشيخ عمر، ثمة رائحة بغدادية للآن أحتفظ بها، بينما في جميلة الثانية وقطاع (٦٠) حيث مدرستي، مدرسة الشهيد عبد الوهاب، كانت هناك نكهة جنوب بريّ ما زلت أسيرها. كنت موزعاً بين البيئتين، أشعر بالانتماء لكليهما. كان بيت جدي أقرب بيوت (الدربونة) للمقبرة، وكنت أقضي ساعات ألهو بين القبور. لعل تلك المقبرة جعلت علاقتي بالموت علاقة غريبة. ذات مرة، شاهدت بأم عيني كيف قتل أحد الرجال اخته غسلا للعار، كانت حركته وهو يطبع بكفه الملطخة بدمها على الحيطان عجيبة بالنسبة لطفل في السادسة أو السابعة. حتى تبليط الشارع في الشيخ عمر كان يثيرني. في الصيف يغدو طريا ، وكنت أعبث به بسكين صغيرة. في جميلة، كل شيء كان مختلفاً. كانت المنطقة أقرب إلى القرية منها إلى المدينة، رغم أن مساحة البيوت أكبر بكثير.
أرى انك مثقف مختلف، يعمل على انشغالات واقعه وأيضا م "المشتبك" الذي يجمع بين المعرفة العميقة والوعي بالواقع، لم ينصفك النقد حتى الان.. ما السبب؟
- صحيح، أفاجئ أحيانا بكتاب متواضعي المستوى تكتب عن نتاجاتهم دراسات جامعية وأطاريح دكتوراه. وأتصور أن معظم هذا الاهتمام نتاج علاقات شخصية. وأكاد أجزم بأن ابتعادي عن العلاقات الاجتماعية وتقريبا "عزلتي" عن الوسط الثقافي هو المسؤول عن غيابي عن الدراسات النقدية. مع هذا، لا يشكل هذا الأمر هاجساً مقلقاً لي، لأنّ اهتمام القراء بنتاجي يعوّضني عن كل شيء. أعد تقدير قراء لا أعرفهم من أعظم الجوائز. بالنسبة لانشغالي بالواقع، فإن الانعطافة الكبرى حدثت معي بعد منتصف التسعينيات. قبلها كنت أكتب الشعر وأقرأ كتب الحداثة وما بعد الحداثة. في فترة ما، سحرتني البنيوية وغرقت معها. لكنني فجأة انتبهت حين أعدت قراءة كتب علي الوردي وسلامة موسى. لطالما كان أبي ينبهني لهما وللناقد غالي شكري وغيرهم، لكنني كنت أبتسم معتقداً أن زمن أولئك المثقفين قد ولّى. بعد منتصف التسعينيات، قررت إعادة قراءتهم فصدمت من مدى اغترابي عن الواقع وعزلتي عن الناس. في تلك المرحلة اختلفت بوصلتي وبدأت من جديد، حتى الشعر أهملته، ناهيك عن النقد الأدبي الذي تمرّنت عليه سنوات لا بأس بها. رحم الله خضير ميري، ذات مرة، عام ١٩٩١، بعد أن قرأت ورقة نقدية بسيطة في منتدى الأدباء الشباب، قال لي: أنت لديك حدس نقدي ممتاز وعليك أن تطوره، وتنبأ لي بأن أترك الشعر وأتجه للنقد، وهو ما جرى فعلاً. بالنسبة للوعي بالواقع، فهذا هو المنعطف الأكبر في مسيرتي، وترسّخ بشكل تام بعد وصولي إلى الأردن عام ٢٠٠٠. بدأت أعيد انشغالاتي النقدية وتحررت من مخاوفي وشكوكي بقدراتي، ويعود الفضل في ذلك إلى الشاعر فوزي كريم. كنت قد كتبت عنه ورقة بسيطة في مجلة (المسلّة)، وحين صادفني في مقهى السنترال، قال لي : أشعر أنه كان لديك الكثير مما تريد قوله، لكنك تخشى سطوة من تعتقد أنهم يملكون سلطة وهمية عليك. ثم أضاف وكأنه يقرأ أفكاري: لا تخف من أحد، أكتب ما تفكر به. كانت تلك العبارة تشبه الزلزال، بعدها كتبت ما فكرت به في كل الحقول، بل تجرأت ودخلت حقل الأنثربولوجيا لدرجة أن باحثا عظيما مثل علي الشوك، أرسل لي تحياته مع أحد العائدين من لندن ونصحني بالاستمرار مع الأنثربولوجيا وتعميق معارفي فيها.
قبل ان ابدأ في الحديث معك اسال: باستثناء رواياتك وكتابة الشعر، ما الذي تطلقه من اسم على كتبك الاخرى، هل هي بلا تجنيس ام هي نوع أخر ؟
- في كتب مثل (المكاريد) و(دفاتر خردة فروش) و(قصخون الغرام) وحتى (كتاب الشقاق) و(كشكول الأخرس)، هناك مزج بين العديد من الحقول، ثمة نقد أدبي وبلاغي، وهناك أنثربولوجيا، ونقد ثقافي، وهناك أدب سيرة من نوع الاعترافات والحفر في الذات. حقيقة الأمر أنه لا توجد الكثير من هذا النوع من التآليف في الثقافة العربية. أحياناً، أشعر أنني تأثرت كثيرا بالجاحظ في هذا الجانب، وفي أحيان أخرى، أشعر أنني أريد قول كل شيء دفعة واحدة. لعل بعض أبناء جيلي يعرفون أنني اجترحت في التسعينيات جنساً من الكتابة أسميته (النص الحرج)، وكتبت حوله بيانا في مجلة الطليعة الأدبية في عددها الذي صدر عام ١٩٩٩. كنت أبشر بنص جديد يجمع أجناس الكتابة الإبداعية ويقع في منطقة حرجة، هشة، يمكن أن تنسحب لهذا الجنس أو ذاك، ويحتاج الأمر لذاكرة قرائية صفرية، خالية من التراتبيات الإجناسية. نفس المنطق يوجد في كتبي التي حدثتك عنها، وهو ما انتبه له باحث صديق هو عامر موسى الشيخ في دراسة كتبها عن كتبي بوصفها عينات لرؤية يعمل على ترسيخها، وتقوم على الفكرة ذاتها، منطقة الكتابة الحرجة غير المجنسة.
مثلما تجول الكتب التي وضعتها، كنت انت خلال مسيرتك جوابا أيضا، لا تستقر على شيء، أرى أنك تبحث دائما عن لا شيء، وطبعا لا تجده، وربما أنعكس ذلك في كل ما كتبت.. ما الذي كنت تبحث عنه بالضبط؟
- لا أعرف ولن أعرف، بدأت من الشعر، ثم انتقلت إلى النقد الأدبي. ومع الشعر كتبت رواية منذ التسعينات، لكنني لم أطبعها لأن أحدهم سرق ثيمتها يوم كنا نثرثر عما سننجز وما لن ننجز. كتبت القصص، والتأملات الذاتية التي احتفظت بها لنفسي. مرة كتبت مقالة عما أبحث عنه، وأعتقد أن الأمر ينطبق على الكثيرين. بالأحرى، أنا أبحث عن لحظة الانسجام المفقودة، أو لحظة الكمال، لحظة إمساك المعنى بدون توسط الأشكال. فكرة أكثر من يفهمها هم العرفانيون الذين يلهثون للوصول إلى الحقيقة، أو كما يقول عبد الكريم الجيلي، للوصول إلى الإنسان المحمدي الكامل،
خريف المثقف، أثار جدلا واسعا في المشهد الثقافي العراقي كما لم يثره كتاب أخر منذ زمن طويل، هل هو وباختصار عن تجليات العنف في الثقافة العراقية خلال تاريخ معين..ثقافة مضت مثلا؟ وماذا عن الثقافة الحالية والتي أرى أنها أنتجت ظروفا أقسى من ظروف تلك الثقافة؟ ما تعليقك على ذلك؟
- نعم، أحدث خريف المثقف جدلا ولا زال يحظى بإعادة قراءة من قبل الكثيرين. اعتقد أن أهميته تكمن في كونه طرق منطقة جديدة في الثقافة العراقية، منطقة لم يكتب فيها سوى مقالات نادرة اعتمدت الانطباعات وهي اعادة النظر أو إعادة تفكيك ما يسمى بتاريخ الأفكار الذي تميزت به الثقافة العراقية، وما زاد الموضوع أهمية أو إثارة هو اختيار الفترة التي درستها وهي من ١٩٩٠ إلى ٢٠٠٨، مع الانتباه إلى أنني عدت في بعض الفصول إلى فترات أسبق لفهم بعض الاشكاليات. تاريخ الأفكار هذا لم يدرس نقديا في العراق، إلا في حدود ضيقة. درست الأفكار في تمثلاتها بالشعر والسرد. أما أنا، فدرست تاريخ الثقافة نفسه، كيف تفاعل المثقفون مع السلطة ووقائع الحياة، كيف تعامل بعضهم مع بعض، كيف مارسوا الايديولوجيا، وكيف فهموا الأدب ودوره. نعرف جميعا أن في صلب هذا كله، هناك عنف يمارس لفظيا وفعليا، لهذا زخر الكتاب بتتبع صور هذا العنف. ناهيك عن ذلك، قلت في مقدمة خريف المثقف أنني لن أكون محايدا، وستكون لي رؤية ما تتخلل الكتاب وتوقعت ألا يرضي ذلك الكثيرين، وهو ما جرى. أي أن الكتاب لم يكن أكاديميًا بحتاً كما كان عليه كتاب (السيرة والعنف الثقافي) أو (جحيم المثقف)، كان بالأحرى كتابا ساخنا فيه رؤية شخصية وحدة في بعض الأحيان. لكنه اعتمد الوثيقة ودار في نطاق تاريخ الأفكار.
فيما يخص مرحلة ما بعد ٢٠٠٣، من الواضح أن الأشياء اختلفت والسياقات اختلفت، ودخلنا في تاريخ جديد يحتاج دراسات وليس دراسة واحدة. إذا كان هناك طغيان في الماضي، ففي المرحلة الجديدة حرية تبدو في الحقيقة فوضى، وهذا انعكس بقوة في تاريخ الأفكار، سواء بموقف المثقفين من السلطة أو بعكس نصوصهم الأدبية للواقع والحياة التي يعيشونها. ما زال هناك عنف، مثلما هناك عبثية وعدمية. لا ننسى أن جيلا جديدا ظهر في الثقافة العراقية وهذا الجيل مختلف تماما عن آبائه. نعم، نحتاج دراسات عن هذه الفترة، وأنا لدي مشروع بهذا الخصوص لكن وقته لم يحن بعد.
في كتابك جحيم المثقف، تحدث عن الأثر السلبي الذي ولده الصراع الايدلوجي بين اليسار واليمين، في الثقافة العراقية.. هل لك أن تحدثنا أين يكمن هذا التاثير في الثقافة العراقية، بالنتاج الإبداعي، أم بالأشخاص ومصائرهم.. ام شيء أخر؟
- الحقيقة أن الأثر السلبي للصراع الايديولوجي بين اليمين واليسار يظهر في جميع المجالات، في صراع الأفكار والصراع الاجتماعي داخل شريحة المثقفين، وفي صراع الأشكال الأدبية أيضاً. التالي، كل هذه الصراعات تنعكس في تاريخ الأدب، وفي مصائر الأشخاص أنفسهم. اليساريون مثلا انتهوا إلى الخروج من العراق هربا من الدكتاتورية، ولم يبق في العراق منذ نهاية السبعينيات سوى الأدباء القوميين والمحسوبين على السلطة، ومعهم أدباء غير منتمين. كسرت الثنائية الاجتماعية لشريحة المثقفين التي ظلت فاعلة حتى نهاية السبعينيات وحل مكانها أحادية مقيتة وأثرت تأثيرا كبيرا في تراجع الأدب العراقي، أشكالاً ومضامين. بل إن الدكتاتورية أسهمت بوعي كامل في إنعاش أشكال بائسة من الأدب مثل شعر المديح والفخر والسرد التعبوي، وفي أثر جانبي، لجأ الأدباء والفنانون إلى التجريد العالي هربا من إبداء رؤاهم، شعر الثمانينات الذي ظهر بقصيدة النثر أكبر دليل على هذا. لجأ الشعراء إلى ما سموه تفجير اللغة وهو نوع من التجريد الذي يقرب من العبثية وانتفاء المعنى تماما كي يتهربوا من الواقع المرير الذي يعيشونه، كذلك في النقد، ذهب النقاد إلى البنيوية وصاروا يتعاملون مع النصوص بوصفها جثثا ميتة يشرحونها كما يفعل الأطباء في قاعات الدرس. كان ذلك من آثار الدكتاتورية والدكتاتورية نفسها كانت تكليلا للصراع العقائدي الذي شهده العراق منذ الثلاثينيات. لقد بحثت كل هذا في جحيم المثقف اعتمادا على مئات النصوص.
في اعمالك الروائية هيمنت الفنتازيا بشكل واضح على موضوعاتها، كما في (ليلة المعاطف الرئاسية ) واعتقد (مخطوط فيصل الثالث) لاني لم اقراه الى الان، لماذا هذه الهيمنة وانت المعروف بواقعيتك في ما ذهبت اليه من كتب وبحوث؟
- هذه ملاحظة رائعة، علي توضيحها أو على الأقل التفكير بها. نعم، ثمة تناقض ظاهري بين انهماكي الشديد بتقصي الواقع وتفكيكه في كتبي ومقالاتي، وبين لجوئي بل وشغفي بالفانتازيا عندما أكتب في الأدب، وبالمناسبة، ما تلاحظه من فانتازيا في الرواية هو نفسه موجود في ما كتبت من شعر، أو بحسب ما أسميته (النصوص الحرجة). الحقيقة أستطيع تفسير هذا التناقض بأنني ربما أهرب من هذه الواقعية المرة بالتحليق مع الخيال. أتصور أن الأدب هو تحليق مع الخيال، أو إعادة تشكيل لمفردات الواقع وعناصره كما نفعل في الحلم. الحلم يشبه الأدب، ففيه نعيد سرد حياتنا الباطنية برموز جديدة وأفكار لا علاقة لها بالواقع، إن بما نفكر به في الوعي. انها نوع من أنواع تمثيل اللاوعي، لكأننا نضع حياتنا وعناصرها في سرداب مخفي، ثم نعود اثناء النوم لنعبث بها ونعيد تشكيلها بحرية نفتقدها أثناء ممارستنا ليومياتنا. الأدب كذلك، إنه إعادة تشكيل لعناصر الواقع بحرية، بعيدا عن المنطق. في صباي، كنت أقرأ الأدب الواقعي بكثرة، وكانت البوابة من الأدب الروسي العظيم. لكن في شبابي، حدث أن أكتشفت الواقعية السحرية ونصوص الشعر السيريالي التي صدمتني. حين قرأت هنري ميشو ولوتريامون وماركيز وخوان رولفو وكافكا وجدت نفسي أمام صدمة هائلة، قلت لنفسي: هذا هو الأدب الحقيقي إذن، أين كنت عنه يا إلهي. ومنذ تلك السنوات، بقيت رهين الأدب الفانتازي، إنه الجناح الآخر لعقلي، في النقد والكتابة التأملية والأنثربولوجية، أنا واقعي تماما، لكن في الأدب، الفانتازيا هي الملاذ الأعظم.
المهمشون أستغرقوا منك كتابا عنهم، وقلت مرة أن هؤلاء لم ينصفوا من قبل أجناس الثقافة العراقية بما فيها السينما، ما الذي دفعك لاقتفاء أثر هؤلاء؟
- المهمشون هم الحقيقة، هم أبطال الحياة مثلما هم ضحاياها. قلت في كتاب (المكاريد) إنهم وقود العالم، وقود التاريخ، هم الكتل الكبرى التي تتقدم الجموع، لتموت أو تبني، تقاتل أو تنتخب. لكنهم بعد أن ينجزوا ما مطلوب منهم، يهملون ويتركون في زوايا النسيان. إنهم يشبهون تلك المرأة التي يسمونها (شمهوده)، كانوا يدعونها للمآتم لبراعتها في اللطم وقيادة جموع النساء في المأتم. لكن حين يصبون الطعام، يهملونها ويتركونها لتأكل مع الأطفال، لهذا يقال لمثلها (مثل شمهوده، تلطم ويه الكبار وتاكل ويه الزغار). المهمشون كذلك، يقومون بكل شيء لكنهم لا يحصلون إلا على الفتات. انسحب هذا على توثيقهم، فهم ظلوا في الظل، في الظلام. الطبقة الوسطى هي التي تتصدر المشهد دائماً، أين الشحاذ وبائع اللبلبي أو بائعة السمك أو فراش المدرسة في أعمالنا الدرامية؟ هذه مشكلة قديمة جدا، وليست بنت اليوم. صحيح أن هناك روائيين وثقوا حياة الفقراء، لكن مثل هذه الأعمال قليلة جدا، انها استثناء، وغالبية النصوص تدور حول الطبقة الوسطى. كذلك في القصة، أما في السينما والتلفزيون فحدث ولا حرج. في المسرح، هناك أعمال قليلة أيضاً دارت حول حياة المهمشين وهمومهم. اليساريون فعلوا ذلك، وهذا عرض من أعراض الصراع الإيديولوجي الذي تحدثنا عنه. اليساريون هم الأكثر اهتماما بهذه الشريحة، ومن يطالع مجلات الخمسينيات والستينيات، سيلاحظ الجدل المحتدم مثلا بين الداعين للحوار بالعامية وبين الداعين لعدم الاقتراب من العامية. انها قضية تدور في الأجواء نفسها، دور الأدب في المجتمع وعكس حياة الناس أو الابتعاد عنها. في العموم، الاهتمام بالهوامش والمهمشين والفقراء كان قليلاً أو استثناءً، القاعدة أن نوثق لحياة الطبقة الوسطى.
اهتمامك بالانثروبولجيا، حتى في بحوثك الاكاديمية، من اين اتى هذا الاهتمام لدى محمد غازي الاخرس. وهل هو مبثوث فيما كتبت؟
- نعم، إذا وضعت لنفسي تراتبية في شغفي بالأشياء، فستكون الأنثربولوجيا في القمة. عشقت هذا الحقل منذ أن قرأت مجلة (التراث الشعبي). كانت قراءة عالم الطقوس والمخيال الشعبي متعة حقيقية، متعة ترسخت لاحقا حين عرفت أن هناك حقلاً منهجيا يدعى الأنثربولوجيا. اكتشفت أن هذا الحقل علم واسع، ويمكن أن يستغرق عمرا بأكمله. لا أستطيع أن أدعي أنني مختص بالأنثربولوجيا، إلّا أنني كتبت الكثير هذا الحقل. كتابتي هي كتابة هاوٍ في هذا الحقل، رغم أن قراءً كثيرين يعدونني أنثربولوجياً. سبب تميزي في هذا الحقل أنني أحبه، ولدي فيه شغف عظيم. حين أكتب وأفسر الظواهر، أشعر وكأنني أكتب الشعر، أحب ذلك كثيرا.
* أحجمت عن الشعر وكان الاهتمام به في بداياتك، هل وجدت ان الشعر تراجع من حيث الأهمية في التلقي مقابل الرواية والكتب غير المجنسة أم ماذا؟
- نعم، أنا بدأت شاعراً وتطرفت في فترة من حياتي مع هذا الجنس الأدبي. جربت كتابة نص مفتوح وحاولت التنظير له نقديا. لم أتوقف عن الشعر، ولدي الآن مجموعة كبيرة من النصوص قد تؤلف ديوانا ضخماً. لكنني أكتب الشعر حاليا وفق مزاج، وبشكل متباعد. أحيانا أفاجئ بقصائد كتبتها ونسيتها، بعضها أصادفها في صفحتي بالفيس بوك. لماذا أنسى أنني أكتب الشعر؟ الأمر يحتاج تفسيراً، وأقرب تفسير أن الشعر تراجع في سلم الأولويات أمام النقد وبقية الانشغالات ومنها الرواية. مع هذا، قد تفاجئ يوما بطبعي ديوانا أجمع فيه ما كتبته لأنتهي من الأمر.
سؤال لا بد منه: هل ترى دورا ما مؤثرا للمثقف العراقي - بعد كل ما أنجزت عنه-، في تفاصيل العراقي الاجتماعية والسياسية؟
- للأسف، المثقف العراقي عاجز عن التأثير حتى لو كانت لديه الأدوات والرغبة. تكوين المثقف العراقي والعربي هو من ساعد على وصولنا لهذه النتيجة. إنه معزول عن محيطه، أحيانا يكون متعال، وأحيانا يعجز عن الاندراج في المشهد رغم تواضعه. تكوينه التاريخي كان كذلك. منذ أن ظهر بهيئة أفندي يجلس في المقاهي ويقرأ الجرائد ويكرر مصطلحات حديثة، منذ ذلك الوقت ظهرت أزمته التي ما زالت حتى اليوم يعاني منها. فهو يشعر في دواخله بأن لديه رسالة في وسطه الاجتماعي وهو أن يتقدم الآخرين ويتحدث باسمهم، لكنه في الوقت نفسه، يعاني من شعور ممض بأنه مختلف عمن يفترض به الحديث باسمهم. إنه أرقى منهم عقلا، وأكثر منهم وعياً، ومن المستحيل أن يحسب نفسه جزءا منهم. هذه هي الأزمة الكبرى التي يبدو أن لا حل لها. لهذا يبدو من الصعب عليه أن يكون مؤثراً في وسطه.
قرأت لك تعليقا قبل فترة يعرب عن مخاوفك من التطور الرقمي الهائل ، وبالتحديد (الذكاء الاصطناعي) لا الخوف منه بل من أثره على البعض.
- نعم، متخوف بل مرعوب من هذا الذكاء الاصطناعي، السبب أنه يشبه اكتشاف المسدس، حين اكتشف السلاح الناري انتهى الفرق بين الشجاع والجبان. مع الذكاء الاصطناعي، أخشى أن ينتفي الفرق بين الموهوب وغير الموهوب. يصح هذا في جميع الحقول، في الأدب، الفن، الإعلام، البحث الأكاديمي. الذكاء الاصطناعي سينهي الفرق بين من وهب الملكة التي تميزه عن الآخرين، وبين من كان يحلم بامتلاك تلك الملكة. هل سيصمد الذكاء البشري أمام هذا الغزو المخيف؟ لا أدري.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

بين إرث ما بعد الدراما وعودة السرد "مسرح أوروبا معقلا ونموذجا"

موسيقى الاحد: موتسارت الاعجوبة

من منسيات النقد الأدبي في العراق

طقوس فارسية .. علامة فارقة في الأدب الإيراني

صلاح عباس: على مدى تاريخ الحقب الصدامية لم يشكل فن الحرب ظاهرة مميزة مثلما موجود في العالم

مقالات ذات صلة

الفلسفة ركيزة اساسية للذكاء الإصطناعي
عام

الفلسفة ركيزة اساسية للذكاء الإصطناعي

أنتوني غريلينغ* ، بريان بول** ترجمة: لطفية الدليمي أعلنت شركة OpenAI مؤخرًا أنّها تتوقّع مَقْدَمَ «الذكاء الفائق Superintelligence" - أي ذكاء اصطناعي يفوق القدرات البشرية - خلال هذا العقد ( العقد الثالث من القرن...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram