بغداد / المدى
واصل رئيس مؤسسة المدى للإعلام والثقافة والفنون فخري كريم حديثه في الحوار الذي اجرته معه قناة «شمس» الفضائية، متناولا مسار العملية السياسية في العراق منذ عام 2003، والأخطاء التي رافقت مرحلة التحول الديمقراطي.
في هذا القسم الثاني من الحوار، تطرق فخري كريم إلى واقع إقليم كردستان وتحديات وحدته الداخلية وعلاقته ببغداد.
القسم الثاني
من مستنقع إلى آخر!
حين قيل لفخري كريم بجرأة مباشرة: «وكأنك تقول إن الوضع اليوم أسوأ من أيام صدام حسين»، بدا أنّ السؤال يختبر خطًا أحمر في الذاكرة العراقية. لكنه لم يتردّد. رفع صوته قليلًا، وبدا كمن يريد أن يضع حدًّا لسوء الفهم.
قال: «المقارنة غير واردة إطلاقًا. أيام صدام حسين أفضل؟ أي صدام حسين؟ يكفي أن تذكر اسمه لتعود كل المآسي التي أنهكت العراق، وكل الجرائم التي لا يمكن تبريرها تحت أي ظرف». يربط فخري كريم جذور الانهيار بما قبل صدام نفسه، تحديدًا انقلاب 8 شباط 1963، الذي يعتبره «اللحظة التي بدأ عندها الخراب ليس في العراق وحده، بل في العالم العربي كلّه». ومن وجهة نظره، ما تلا تلك اللحظة كان سلسلة انهيارات متتابعة: من مستنقع إلى آخر.
لكنّه، في الوقت نفسه، يرفض مساواة الحاضر بالماضي. يقول بحزم: «هذا الوضع -رغم كل ما فيه من فساد وفوضى وتلاعب- لا يمكن مقارنته بصدام حسين. حتى لو كان البعض يريد جرّنا لهذا الوهم». المشكلة ليست في أن الحاضر «أسوأ» من صدام، بل في أن الحلم الذي رافق سقوط النظام… أُجهض.
يشرح: «نحن -الإسلاميون، والقوميون، واليساريون، وكل العراقيين- كان لدينا حلم، حلم دولة حاضنة للجميع، دولة تفتح أبواب المستقبل. كنا نريد دولة تتجاوز جحيم الاستبداد، لا أن تستبدله بصور أخرى مشوّهة». لكنه يعترف بمرارة: «هذه ليست تلك الدولة».
ثم يختصر بجملة قاسية لكنها دقيقة: «ليس هناك دولة أصلًا. لذلك ليس هناك رجال دولة. وليس هناك مؤسسات دولة. نحن في خرابة». لكنه يعود ليستدرك: «هذا كله لا يعني أن نظام صدام كان أفضل. يجب شطب هذا الوهم تمامًا. الخطأ ليس بالمقارنة، بل بالحلم الذي تحطّم».
تجربة كردستان مستهدَفة
سُئل فخري كريم عن «الحلم» الذي يتحدث عنه كثيرًا: كيف يبدو أنه تعثّر في بغداد، بينما تحقّق - ولو جزئيًا - في أربيل وإقليم كردستان؟ ولماذا استطاع الإقليم، بإمكانات محدودة، أن يقدّم نموذجًا مختلفًا في الخدمات والأمن والتنمية، مقارنة ببقية العراق؟
استهل كريم جوابه بالقول «شهادتي مجروحة، وكذلك شهادتكم، لكن الواقع يراه كل من يأتي إلى هنا».
ويشير إلى أنه تعرّض، طوال خمسين عامًا، للشتم والتحريض كلما وقف مع القضية الكردية، مؤكدًا أنه يدافع عن الشعب الكردي «كما يقف مع أي شعب مظلوم في العالم»، وليس من منطلق قومي، بل من منطلق فكري وسياسي.
يشرح كريم أن التجربة الكردية لم تبدأ مع سقوط صدام عام 2003، بل منذ التسعينيات، «حين أقصي صدام حسين عن كردستان بضغط من المجتمع الدولي»، ما خلق بيئة سمحت للشعب الكردي بإجراء انتخابات وتأسيس مؤسسات محلية. ويقرّ بأن «منجزات كبيرة جدًا» تحققت خلال العقود الماضية، لكنه يرفض أن يصوِّر الإقليم كجنّة مكتملة: «لا أتوهّم أن ما نراه اليوم هو الحلم الذي راود مسعود بارزاني، أو راودنا جميعًا. هناك أخطاء، وهناك فساد، وهناك مظاهر شبيهة بما تعاني منه بغداد».
مع ذلك، يشير إلى فارق ملموس في الحياة اليومية: «هنا توجد كهرباء مستقرة، وهناك في بغداد لا توجد. هنا المياه تصل إلى البيوت، وهناك حنفيات في غرف النوم لا يخرج منها شيء، كما قال رئيس الجمهورية نفسه. هنا شوارع وحدائق وأمان نسبي، وهناك فوضى وغياب للخدمات». ويتساءل: «لماذا لا يُعترَف بهذه الفوارق حين يجري الهجوم على التجربة الكردية؟».
ثم ينتقل إلى دور القيادة، مشيدًا بمواقف الرئيس مسعود بارزاني في ملف مكافحة الفساد. ويكشف، للمرة الأولى كما يقول، أن بارزاني أطلق حملة داخلية حقيقية، بدأت بتوزيع استمارات على أعضاء القيادة الحزبية لسؤالهم: «من أين لك هذا؟»، ولم يقتصر الطلب على الشخص نفسه، بل شمل زوجته وعائلته. ويضيف أن بارزاني حاول، «بكل الوسائل»، مواجهة مظاهر الغنى الفاحش والفساد المتزايد.
غير أن كريم يلفت إلى أن هذه الجهود تصطدم بعوامل معرقلة، في مقدمتها البيئة السياسية في بغداد والجوار الإقليمي. ويقول إن القوى النافذة في العاصمة «تراقب تجربة كردستان عن كثب، وتترصد أي خطوة إصلاحية لتستخدمها كثغرة، فتضخّمها وتحوّل الحالة الصحية إلى حالة سلبية، بهدف إعاقة تطور الإقليم». ويضيف أن كثيرين ممن ينتقدون سلبيات الإقليم «يسقطون من حسابهم هذا العامل الضاغط».
ويتوقف عند مواقف الدول المجاورة، موضحًا أن إيران «ليست مرحِّبة» بتعاظم تجربة كردية مستقلة القرار، وأنها أطلقت -مثل غيرها- صواريخ في بعض الأحيان داخل الإقليم، فيما تملك تركيا «تحفظات مستمرة»، أما سوريا، فيروي أن بشار الأسد قال أمامه وأمام رئيس عراقي سابق ثلاث مرات: «نحن لا نعترف بإقليم كردستان»، ورفض أن يوجّه دعوة لمسعود بارزاني بصفته رئيس الإقليم.
وفي الداخل العراقي، يشير كريم إلى خطاب بعض قادة الفصائل المسلحة، فيذكر واقعة لأحد هؤلاء وهو يضع قدمه على الكرسي متحدثًا بسخرية عن البيشمركة بعد دخول كركوك، متسائلًا «أين البيشمركة؟» بنبرة استهزاء، من دون أن يلحظ «الألسنة الطويلة الحقيقية في التاريخ» التي واجهها هذا الشعب.
ويعلق: «الشعب الكردي يشعر في كل لحظة أنه مستهدف، وهذا صحيح. التجربة نفسها مستهدفة، وتحتاج إلى بيئة تردع من يعبث بها، لا إلى من يحاصرها».
ويشدّد كريم على نقطة يعتبرها أساسية: «البيشمركة ليست ميليشيا. البيشمركة جيشٌ يدافع عن الشعب الكردي، ويدافع عن العراق أيضًا، وهو جزء منصوص عليه في الدستور». وفي المقابل، يقول إن الفصائل التي تُعرّف نفسها اليوم كقوى مسلحة «هي ميليشيات مرتبطة بالخارج، وتعلن ذلك وتفاخر به»، بينما تُساق مقارنات «ظالمة» بين البيشمركة وهذه التشكيلات.
ويخلص إلى أن «البيئة السياسية الحالية في بغداد» هي أحد أهم عناصر إعاقة تحقيق الحلم كما يُراد له في كردستان، كما هي عائق أمام بناء دولة طبيعية في عموم العراق، مؤكّدًا أن التجربة الكردية لن تكتمل إلا إذا تغيّر الإطار السياسي العام الذي يطوّقها من المركز ومن الإقليم معًا.
تعطيل حلم الوحدة الكردية
تطرق المحاور إلى ملفات الفساد التي تحدّث عنها الرئيس مسعود بارزاني، وأكد فخري كريم أن بارزاني حاول «بجدية» مكافحتها، إضافة إلى المعوّقات التي تسببت بها بغداد في اتجاه تحقيق هذا الحلم.
ثم طرح المحاور سؤالاً استيضاحياً: حين تتحدث عن «الحلم الذي لم يتحقق»، هل تقصد «حلم الدولة الوطنية الكردية» أم أي حلم آخر بالتحديد؟
أجاب كريم قائلاً إن تحقيق الحلم «غير ممكن» ما دامت السليمانية وأربيل، بل الإقليم عموماً، غير قادرين حتى الآن على «التوحد كوحدة سياسية متكاملة بكل عناصرها». وأضاف أن «جوهر الحلم» هو أن يتمكن الشعب الكردي من أن «يتوحد في الإطار الذي يحمي تجربته ومنجزاته، ويحقق له منجزات أخرى ضاعت منه». وعند طلب المحاوِر تأكيد الفكرة، قال كريم إن هذا «الشق الأول من الحلم».
وأكد كريم أن «أول تحدٍّ» يعمل ليل نهار على تفتيت النسيج الكردي، وعلى إضعاف الحركة السياسية الكردستانية، بل وعلى محاولة تفكيك الإقليم ذاته، هو القوى السياسية في بغداد.
وضرب مثالاً بملف الرواتب، متسائلاً: «ما علاقة الرواتب في الاقليم بالجانب السياسي؟». وأوضح أن الخطاب العراقي الرسمي يتعامل مع كردستان بازدواجية لافتة. قبل أيام قال أحدهم: كركوك عراقية وستبقى عراقية خط أحمر. طيب… وكردستان؟ هل هي ليست عراقية؟». وأضاف: «كردستان جزء من العراق، ومن لا يرى ذلك فهو أعمى».
وتابع قائلاً إن البعض يفترض أنه إذا أصبحت كركوك «على علاقة» بكردستان فلن تبقى عراقية، متسائلاً: «كيف ذلك؟ ما دام الإقليم جزءاً من العراق، فكيف تتم صياغة هذه المعادلات المتناقضة؟».
واعتبر كريم أن هذا العائق ليس مجرد اختلاف سياسي، بل هو «لوثُة قومانية مذهبية متخلفة»، ترتبط—كما قال—بمصالح خارجية واضحة، موضحاً أن «لا إيران ولا تركيا تقبل بواقع الشعب الكردي»، مضيفاً أن القوميين في العالم العربي «قومانيون وليسوا قوميين»، وأن المنطقة عانت من مشاريع وحدوية «لا نعرف كيف كانت ستنتهي»، وهي أيضاً جزء من عوامل تعطيل وحدة الصف الكردي.
ثم كشف كريم جانباً آخر من المعادلة، قائلاً إن الأمر لا يتوقف عند الأكراد، بل يمتد إلى الشيعة أنفسهم داخل العراق، مضيفاً: «قد تستغرب إذا قلت لك إن هناك من لا يريد وحدة الشيعة أيضاً». وتابع متسائلاً: «ما الداعي لتقسيم الشيعة إلى أربعين ميليشيا؟ ما الهدف من ذلك؟». وأجاب بنفسه: «الغاية واضحة: منع الشيعة من التوحد داخل إطار جامع».
ورأى كريم أن الشيعي العراقي، مثل الكردي، «لن يقبل أبداً أن يكون امتداداً لأحد». واستشهد بتاريخ النجف والمرجعية، قائلاً إن «اضرحة الأئمة في النجف»، وإن الإمام الوحيد المدفون في إيران «حينما يُزار يُقال له: يا غريب الدار، لأنها ليست داره»، في إشارة إلى خصوصية المرجعية العراقية واستقلاليتها التاريخية.
وختم حديثه بالإشارة إلى أن «هناك من لا يريد حتى للشيعة أن يتوحدوا»، معلّقاً بأن «الأذناب وحدهم هم الذين…» قبل أن يقاطعه المحاور بسؤال جديد.
الحكومات الشيعية كرّست مظلومية الشيعة
طرح المحاوِر مفارقة مفادها أن الشيعة تعرّضوا لسنوات طويلة من القمع والاضطهاد، تماماً كما تعرّض الأكراد. وأوضح أنه يشعر بالاستغراب حين يرى حكومة شيعية تمارس «مظلومية» على الإقليم—كما قال—وهو أمر لم يكن يتوقعه، لأن الشيعة، من وجهة نظره، هم الأكثر إدراكاً لما لحق بالأكراد، وكان يفترض أن يكونوا الأحرص على رفع الظلم لا إنتاجه.
ردّ كريم قائلاً إن «الطبقة الحاكمة الحالية»، ورغم رفعها شعار تمثيل الشيعة، هي «أكثر الحكومات التي أساءت للشيعة أولاً»، قبل أن تسيء لغيرهم. وأوضح أنها كرّست مظلوميتهم وحوّلتها إلى «مسيرات وشعائر» مرتبطة بالإمام الحسين، بينما الشيعة بطبيعتهم لم يكونوا بحاجة إلى ذلك «لأن الناس كانت تزور الإمام من كل أنحاء العالم».
وقال كريم للمحاوِر: «اذهب إلى الجنوب، إلى الوسط. انظر إلى التخلف، والفقر، والبطالة، والتجاوزات»، مؤكداً أن المتضرر الأكبر من سياسات الحكم الحالية هم الشيعة أنفسهم، لا غيرهم.
وأوضح كريم أن الشيعة هم «الأغلبية»، وأن محافظاتهم - مثل ميسان والنجف وكربلاء - تصوت لمرشحين شيعة، وبالتالي فإن مقاعد تلك المحافظات كفيلة بأن تجعل الشيعة القوة الأكبر في البرلمان، وبالتالي القوة التي تنتج رئيس الوزراء بحكم التوافقات. وأضاف أن ذلك لا يحتاج إلى «الإطار التنسيقي» الذي، كما قال، «لا يعبر عن إرادة الشيعة»، مؤكداً أنه واثق بأن «اليوم الذي سيُحاسَبون فيه قادم».
ثم عاد ليسأل: ما هي الإنجازات التي حصل عليها الشيعة في الجنوب والوسط؟ وقال إن «حيتان الفساد» تسيطر على ثروات المحافظات، وإن الميليشيات تصادر إرادة الناس قبل أن تصادر الدولة، مضيفاً: «هؤلاء ضد الشيعة قبل أن يكونوا ضد السنّة».
وروى أنه ناقش أحد المسؤولين ذات مرة، فقال له: «يا أخي، الشيعة أغلبية. بالانتخابات سيذهبون إلى صناديق الاقتراع، ومن ينتخبوه سيذهب إلى البرلمان، والأغلبية ستكون شيعية». فردّ عليه ذلك الشخص بالقول: «صحيح، لكن قد تخرج أنت أو حميد مجيد موسى»، في إشارة منه إلى أن كون الشخص شيعياً لا يكفي إذا كان «شيوعياً» أيضاً، في تلميح واضح إلى إقصاء أي صوت شيعي لا ينتمي لمنظومة الطاعة السياسية.
وانتقل كريم للحديث عن التكوينات الشيعية نفسها، مشيراً إلى السيد مقتدى الصدر باعتباره - بحكم الواقع - يمثل «أغلبية شيعية». وقال إن خلافه أو اتفاقه معه لا يغيّر هذه الحقيقة. وأضاف أن الصدر يعتبر الميليشيات «سبتتنك» - حسب تعبيره - ولا يصلح حتى «للجلوس معهم»، وأنه اعتزل في النجف بسبب هذا الفساد.
وتابع قائلاً إن ما يجري في العراق اليوم يستدعي وجود «جيش واحد وقوات مسلحة واحدة»، مشيراً إلى أن تجربة السودان حيث يوجد جيش وميليشيا، هي «أخطر مثال يمكن أخذه بنظر الاعتبار». وقال إن الذين يتلاعبون بالسودان «هم الخارج المحيط»، في إشارة منه إلى تشابه الظروف.
واستعاد كريم حادثة ما بعد الانتخابات السابقة حين «جرت مذابح في الخضراء»، قائلاً إن المتظاهرين من اتباع التيار الصدري كانوا داخل البرلمان، بينما داهمتهم الميليشيات في المنطقة الخضراء، واندلعت معارك بالأسلحة الثقيلة. وأضاف: «لولا أن الصدر تراجع في اللحظة الأخيرة، لكانت كارثة».
وأوضح أن الحديث يجب ألا ينصرف إلى القول إن هذه القوى تمثل الشيعة، لأنها «لا تعبر عن المجتمع الشيعي ولا الإرادة الشيعية». وهنا تدخل المحاوِر قائلاً إن «ملايين الشيعة نزلوا وانتخبوا»، فردّ كريم قائلاً إن أول ما يجب فهمه أن «الميليشيات جرّت الناس بالقوة إلى صناديق الاقتراع». وأضاف: «لا تصدّق. في أي بلد، ليس في العراق فقط، إذا كان هناك سلاح خارج الدولة أو ميليشيا، لا يمكنك أن تتحدث عن صناديق اقتراع وانتخابات».
وأشار كريم إلى وجود أكثر من مليوني مراقب في الدوائر الانتخابية، مضيفاً أن معظمهم «ممثلو القوائم الانتخابية ومدفوعون»، وأن كل مراقب من هؤلاء «يصوّت لمن يمثلهم»، قائلاً: «هذه اصوات جاهز».
وأكد أن العراقيين - وخاصة الشيعة قبل السنة - أدركوا ذلك تماماً، لأن «المال العام المنهوب يعبث في ضمائر الناس». وأشار إلى أن «مئات الملايين من الدولارات تُصرف»، وأن أحدهم أنفق «350 مليون دولار للحملة الانتخابية»، وهو-كما قال- «قبل عشر سنوات لم يكن يملك شروى نقير». وأشار إلى آخرين يحققون الثروات ذاتها.
ثم عاد ليؤكد شكوكه بشأن قانونية الانتخابات في ظل قانون انتخابي لا يُطبّق، مشيراً إلى أن «الدستور والقانون لا يسمحان إطلاقاً بمشاركة المسلحين والميليشيات»، سواء كانت «مذهبية أو دينية أو إرهابية أو متطرفة».
وأضاف: «الآن، كما في السابق، يقول لك: هذه كتائب حزب الله، وهذه عصائب، وهذه بدر». وأوضح أن بعض المليشيات «جاءت من الخارج إلى الداخل»، وكان يفترض حلّها خلال مرحلة الدمج، وهي واحدة من «أخطاء بريمر السخيفة»، كما وصفها، إذ سمح بسياسة «دمج الميليشيات بالجيش». وروى أنه كان يُسأل قادة الفصائل: «كم لديكم؟» فيجيبون: «50 ألف، 20 ألف عنصر». فيتم إدخالهم جميعاً في القوات الامنية، فـ«تزرع» عشرات الميليشيات داخل الدولة.
وتوقف كريم ليقول إن هناك «التباساً كبيراً» يتعلق بالحشد الشعبي، مؤكداً أنه «لا يمكن إلا تمجيد» أولئك الذين تطوعوا بناء على فتوى المرجعية، وذهبوا إلى الخطوط الأمامية وقاتلوا داعش، و«ساهموا بدمائهم» في الانتصار عليه. وأضاف: «هؤلاء أبطال عراقيون يجب أن يُكرّموا، وشهداؤهم شهداء الوطن والشعب». وأوضح أن عددهم «لا يتجاوز خمسين ألف متطوع».
وتساءل: «لكن ما هذا الذي يحصل؟ لماذا أصبح عدد الحشد 200 ألف عنصر؟ من أين جاؤوا؟». ثم أوضح أن المطلوب ليس حلّ المتطوعين، بل «تطهير» المؤسسة من «الميليشيات الولائية وقياداتها».
وقال أنه يجب «تمييز» هؤلاء الأبطال داخل القوات المسلحة، عبر تشكيل «فرق ذهبية» لمكافحة الفساد والإرهاب والدفاع عن الوطن، وفق الأسس العسكرية. وأضاف أن ما يجري الآن هو العكس: «قيادات الحشد تتدخل في الجيش والقوات المسلحة، ولم يعد المفهوم العسكري مفهوماً موحداً».
وأوضح أن هذه القيادات في المؤسسة العسكرية واحدة من «مصادر الفساد»، كاشفاً أن «أحد رؤساء الوزراء» قال إنهم «يأتون لاستلام رواتب ب«الأكياس، كأنها أكياس قمح»، مشيراً إلى فضيحة «رواتب الفضائيين» وتقاسمها بينهم.
السنّة ضحية تمثيل زائف
قال الأستاذ فخري كريم إن البعض يوجّه اتهامات لجزء من الشيعة بأن «ولاءهم لإيران» وليس للعراق، فسأله المحاوِر بشكل مباشر عن مدى صحة هذا الكلام، وإلى أي حد يمكن الاعتماد على مثل هذا الوصف. أجاب كريم بوضوح أن هذا الطرح «خاطئ»، موضحاً أن المسألة ليست مسألة «ولاء الشيعة لإيران»، بل العكس تماماً: «الولاء هو ولاء إيران لهم»، لأن طهران - كما قال- هي التي تتعامل مع بعض القوى السياسية على أنها «أذرع لها»، وتأتي لدعمها وتثبيتها، «لا العكس».
وأضاف كريم: «لست عدواً لإيران»، مبيّناً أنه كانت تربطه علاقات صداقة بالحاج قاسم سليماني وبأبي مهدي المهندس، وأنهما كانا يزورانه في منزله ويؤديان صلاتهما على سجادة شقيقته. واعتبر أن السياسي الذي يعادي إيران «مغفَّل»، لأن إيران «دولة جارة، لها تاريخ عظيم، وشعب عظيم»، ويمكن أن تكون «خط دفاع للعراق»، كما يمكن للعراق أن يكون «خط دفاع لإيران»، لو كانت العلاقة قائمة على احترام السيادة والمصالح المتبادلة.
لكن كريم شدّد على نقطة محورية قائلاً إن «كل قيادات الجمهورية الإسلامية دون استثناء» صرّحوا على مدى سنوات طويلة أمام الإعلام معتبرين بعض القوى العراقية «أذرعاً إيرانية»، وأن هذه القوى نفسها لم تُخفِ ذلك، بل عبّرت عنه أمام الإعلام و«افتخرت» بعلاقتها بطهران.
وأوضح أن هناك فرقاً بين «العلاقة مع إيران» وبين أن تكون «ذراعاً لإيران»، مؤكداً أن العراقيين - شيعة وسنة وكرداً، «لا يقبلون أبداً» بانتهاك سيادتهم، ولا يمكن لأي بلد في العالم أن يكون مستقلاً إذا سمح بتجاوز حدوده السياسية بهذا الشكل.
وانتقل الحوار بعد ذلك إلى سؤال حول وضع السنّة في العراق اليوم، فقال كريم إن ما يجري معهم «لا يختلف كثيراً عما يجري مع الآخرين». وأضاف أن قسماً كبيراً من القيادات السنية الحالية «لا يمثل المجتمع السني»، وأن بعضهم—كما قال—«تاهوا»، وأصبحوا في موقع يسمح لهم بعقد تفاهمات مع قوى خارجية لا تعبّر عن مصالح أهلهم.
وضرب كريم مثلاً بتصريح أدلى به رئيس البرلمان المنتهية ولايته محمود المشهداني، حيث قال إنهم يلتقون بالمبعوث الأميركي ويعرضون عليه المطالب، فيسجلها ويعدهم بأنه سيرفعها للإدارة الأميركية، ثم يلتقون بقاسم سليماني ويعرضون عليه المطالب نفسها، فيردّ: «أوكِ… فوراً يحصل». وقال المشهداني في اللقاء ذاته.. اذا كان الوضع هكذا، «خلّينا نتناقش.. ليش ما أصير وياهم؟»، في اشارة إلى تعزيز العلاقة بين القوى السنية وايران.
وأوضح أن هذه القيادات«لا تمثل المجتمع السني»، ولا تعبّر عن إرادته الحقيقية. وقال إنهم «صرفوا ملايين الدولارات لكسب العشائر»، وإنهم أقاموا مضافات وولائم لاستمالة الناخبين. وروى حادثة من الأردن حين سأل: «أين المواكب هنا؟»، فأجابوه أن القانون يمنع أي شخص من استخدام أكثر من سيارتين في الموكب، بينما في بلدان أخرى «المواكب محترمة» ومحدودة.
ثم انتقل كريم إلى مثال آخر قائلاً: «في الموصل… هناك ولد لا تاريخ له ولا لعائلته يمشي في المدينة بثلاثين سيارة اخر موديل ومصفحات»، معتبراً أن هذا المشهد «استفز العالم كله». وأضاف أن أحد المرشحين من قادة الكتل كان يسير بموكب من «خمسين سيارة»، متسائلاً: «ماذا يعني ذلك؟».
وختم هذا الجزء من حديثه بالإشارة إلى أن هذا النوع من الاستعراض والمال السياسي «يشوّه التمثيل» ويخلق طبقة سياسية «لا علاقة لها بالناس»، سواء كانوا سنة أو شيعة أو أكراداً.
القسم الثالث والاخير في عدد يو غد الأربعاء










