د.فاطمة الثابت
لست ممن ينساقون عادة خلف كل ظاهرة تضرب مواقع التواصل الاجتماعي وتتحول إلى ترند يتداوله الجميع بلا تمحيص. لكن هذه المرة بوصفي باحثة في علم الاجتماع وأماً لطفلين، وجدت نفسي وجهاً لوجه أمام سؤال لم أستطع تجاهله. بدأ الأمر حين استدعيت أطفالي وسألتهم بفضول حذر: هل تعرفون الشامي؟ جاء الجواب سريعاً: نعم...وأغنيته دكتور بيا الوجع !!!
لم أتوقف هنا سألت الزميلات والاقارب وغالبيتهن ينتمين إلى بيئات تقليدية محافظة، وطرحت عليهن السؤال نفسه كانت الإجابة واحدة (نعم) المفارقة الصادمة لم تكن في المعرفة بحد ذاتها بل في العبارة التي ترددت أكثر من مرة:
"أطفالنا يعرفونه... ونحن لا نعرفه".
مدفوعة بالقلق ..قررت أن أستمع إلى الأغنية التي يتغنى بها الصغار. الكلمات بدت أكبر من أعمارهم، والصوت أجش، مشحون بانكسار غامض، بعيد عن النعومة أو البراءة التي يفترض أن ترافق عالم الطفولة. حينها أدركت أن المسألة لا تتعلق بمغنٍ عابر، بل بظاهرة اجتماعية تحمل في طياتها مؤشرات أعمق. عدت إلى نظريات علم الاجتماع التربوي والثقافي أبحث عن تفسير لهذا اللغز: كيف يتسلل صوت قاسي محمل بدلالات تتجاوز وعي الطفل، ليقيم في وجدانه؟ ولماذا يتمايل أطفال نشؤوا في بيئات مختلفة على أنغام لا يدركون معناها، لكنها تحرك فيهم استجابة وجدانية غامضة؟
إن ظاهرة "الشامي" شأنها شأن كثير من نجوم الترند السريع، ليست مسألة ذائقة فنية فحسب، بل تعبير عن تحولات جذرية في أنماط التنشئة الاجتماعية داخل الفضاء الرقمي ولجيل ألفا .. الطفل اليوم لا يتلقى القيم من الأسرة وحدها، بل يخضع لتنشئة موازية تقودها الخوارزميات، وتصنع له قدوات جديدة خارج سياق ثقافته المحلية.
وفق مقاربة رولان بارت، فإن ما يجذب الطفل ليس المعنى، بل "خامة الصوت" تلك الذبذبات المشحونة بالعاطفة التي تخترق الوجدان قبل أن تمر بالعقل الإيقاع يصبح لغة أولى، والكلمات مجرد زينة صوتية...في هذه الحالة يتحول الغناء إلى وسيط لنقل مشاعر خام من غضب وحزن وتمرد، يتلقاها الطفل دون تصفية.
ثم تأتي عدوى الجماعة فبحسب نظريات سيكولوجية الجماهير، يصبح "الترند" بمثابة بطاقة انتماء لجماعة الأقران لا يردد الطفل الأغنية حباً بها، بل هرباً من العزلة وخوفاً من الإقصاء، ليذوب في ما يشبه "القطيع الرقمي" حيث الجماعة تقود الذوق وتعيد تشكيل الوعي.
أما من منظور باندورا، فإن الطفل لا يكتفي بالسماع، بل يقلد النموذج المعروض أمامه ..الحركات و الإيماءات و نبرة الصوت، وحتى ملامح التمرد التي تقدَم بوصفها رمز للقوة والجاذبية. هنا لا تعود القدوة الأسرة أو المعلمة، بل شخصية افتراضية صنعتها الشاشة.
وفي ظل هذا كله تنهار وظيفة الأسرة لم تعد المتحكم الأول في ما يدخل إلى عالم الطفل، بل بات الهاتف الذكي نافذة مفتوحة بلا ضوابط، يضخ محتوى يعيد تشكيل الذائقة والوعي والسلوك.
إن خطورة هذه الظاهرة لا تكمن في شخص المغني بقدر ما تكمن في دلالتها الرمزية.. نحن أمام جيل يُبنى وجدانه على الذبذبة لا المعنى، وعلى الاستجابة لا التفكير، وعلى التقليد لا الاختيار الواعي. جيل يسهل التأثير عليه عاطفياً ويصعب تحفيزه بشكل عقلي ومنطقي.
وهنا يتجلى التهديد الحقيقي للأمن المجتمعي، ليس في أغنية عابرة، بل في منظومة كاملة تعيد إنتاج الوعي خارج سلطة الأسرة والمدرسة، وتمنح "الترند" سلطة تشكيل الوجدان الجمعي.
إنها دعوة للتأمل لا للمنع الأعمى ولإعادة التفكير في موقعنا كآباء ومربين، وفي قدرتنا على استعادة السيادة التربوية، قبل أن نصحو على جيل يرقص على أغانٍ لا يفهمها، وينصاع لأصوات لا يعرف مصدرها، فقط لأنها صُنفت ترنداً…










