يوسف حمه صالح
الإحتفاء السنوي بيوم الفلسفة يُعَدّ مناسبة عالمية لا للاحتفال بتاريخ الأفكار فحسب، بل لإستذكار القيمة العميقة التي تملكها الحكمة في تشكيل مصائر الأفراد والمجتمعات. فالفلسفة، منذ بداياتها الأولى، لم تكن ترفًا معرفيًا، بل كانت دائمًا جهدًا إنسانيًا في فهم الذات والعالم، وتحرير العقل من أسر العادة والسطحية.
يقول سقراط إن “الحياة غير المفحوصة لا تستحق أن تُعاش”، وهو قولٌ يلخّص المهمة الكبرى للفلسفة: إعادة الإنسان إلى نفسه، وفتح أبواب التساؤل بوصفه موقفًا وجوديًا قبل أن يكون منهجًا أكاديميًا. هنا يلتقي علم النفس مع الفلسفة، فكلاهما يسعى إلى فهم الدوافع العميقة، وتفكيك الوهم، وتنمية القدرة على الوعي بالذات.
في يوم الفلسفة، نتذكّر أن حبّ الحكمة ليس مجرد ميل ثقافي، بل مسؤولية أخلاقية في زمن تتكاثر فيه الضوضاء ويقلّ فيه التأمل. إن التفكير الفلسفي يزوّد الإنسان بقدرة نادرة على رؤية ما وراء الظواهر، وفهم الشبكة المعقّدة التي تربط بين المعاني، وتحرير العقل من “الجاهز” و“المسلّم” الذي قد يحجب الحقيقة أو يشوّهها.
كما أنّ الفلسفة تمنح الأكاديمي – وبالأخص المتخصص في العلوم الإنسانية – طاقة نقدية تمكّنه من كشف البُنى الخفية للخطاب و الكشف عن المرجعية الفلسفية التي انطلقت منها المنظورات الاجتماعية و النفسية ، وملاحظة أثر السلطة، واللغة، والمجتمع في تشكيل السلوك الإنساني. إنها تذكير دائم بأن العقل لا يعمل في فراغ، وأن الحكمة ليست معرفةً فقط، بل هي شجاعة: شجاعة الاعتراف، والمراجعة، والمساءلة، وإعادة بناء المعنى كلّما اقتضت الضرورة ، شجاعة الموقف و الجرأة في قول الحقيقة .
وفي الوقت الذي تتسارع فيه التكنولوجيا ويمتد الذكاء الاصطناعي في كل مجالات الحياة، تصبح الحاجة إلى الفلسفة أشدّ إلحاحًا. فالتقدّم بلا حكمة قد يتحول إلى تهديد، بينما التقدّم المحروس بالوعي يمكن أن يصبح جسرًا نحو إنسانية أكثر عمقًا وتوازنًا.
إن يوم الفلسفة هو مناسبة لنقول إن الحكمة ليست تراثًا من الماضي، بل مشروعًا للحاضر والمستقبل؛ مشروعًا يتجدد مع كل جيل وكل عقل وكل سؤال صادق. إنها دعوة هادئة للإنسان كي لا يعيش على هامش ذاته، بل في مركزها… حيث يلتقي الفكر بالمعنى، والحرّيّة بالمسؤولية.










