طالب عبد العزيز
بعيداً عن احتجاج اتباع السيد الخامنئي والذين معهم في البصرة على حفل محمد عبد الجبار، الذي ألغي- بالمناسبة لا أحبُّه مطرباً- وشخصياً؛ قلما تثيرني أغنية عراقية-لكنَّ البصرة ليست مدينة دينية، أو حشدية ومقدسة، وهي ليست شيعية بالمطلق، كما يريد تصويرها هؤلاء، كما لا يتبع كلُّ سكانها الشيعة مرجعيات النجف وقم، إنما هي ككثير من محافظات البلاد الأخرى، مدنية اختلاط ودخولات، حضرية، ثقافية، اقتصادية، ويضاف لها أنها بحرية، وتحادد ثلاث دول إقليمية، كما لا يمكن النظر اليها بوصفها مدينة تشدد ديني، إنّما هي مدينة غير طاردة، مستقبلة لكثير من الاقوام والديانات والطوائف والمذاهب منذ تاسيسها الى اليوم.
استقواء بعض الجهات بالمذهب، والعزف على وتر المناسبات الدينية، واستثمار جهل العامة، والترهيب بالسلاح لا يبني الانسان من الداخل، ولا يخلقُ شعباً (متديناً، مجاهداً) وإقامة حفل غنائي في فندق محدود المساحة، لمطرب لا يهدُّ ديناً، ولا يزعزع طائفةً، و معتقداً، ما يهدُّ ويزعزع المجتمع والدين والانسان هو الفساد، والنهب الممنهج؛ للمال العام، واستمراء الخيانة، وإساءة استخدام السلطة، والعفو عن المجرمين، وتبرئة تجار المخدرات، وسحق وجدان الانسان من الداخل عبر عشرات الممارسات الخاطئة. وليعلم الذين قادوا التظاهرة وارعبوا الناس بأنَّ (دفتراً أو دفترين) من الوريقات الخضر بإمكانها تغيير وجهة التظاهرة، لأنَّ عشرات الحفلات الغنائية والراقصة والتي ينفق فيها المال الحرام إنّما تقام ليلياً في أربيل وبيروت وبغداد والبصرة وغيرها تقام من قبل الكبار الكبار، من الذين تعرفونهم حقَّ المعرفة، لا من الفقراء والمخدوعين الذين ساروا بركبكم.
ثم، ألا يلاحظ هؤلاء بأنَّ التشدد في الدين وحجب مظاهر الحياة الحضرية والمدنية في الثقافة والفنون والآداب في البصرة وغيرها أنتج ردود أفعال هي الأسوأ على حياة الناس، مثل محال المساج والتجميل بتمظهراتها المعروفة، وصالات القمار المعلنة والخفية، ونوادي الشرب غير المرخصة، وتعاطي الفواحش بمختلف صورها، التي أنتجت لنا مجتمعاً مشوّهاً، انحرف عن مسار التنمية باتجاه العلوم والتكنولوجيا، ألا ينظر هؤلاء الى ما يحدث من تطاول على الشركات التي تنفذ المشاريع الخدمية في الاقضية والنواحي في الجنوب؛ وشمال البصرة بخاصة، ألا ينظر هؤلاء بأمِّ أعينهم الى النزاعات العشائرية التي تستخدم فيها الأسلحة الخفيفة والمتوسطة، ألا يعرف هؤلاء من يقف وراء ذلك كله؟، وما الذي يحول دون استطاعة الدولة في السيطرة على الذين يعبثون بأمن وحياة الناس والبلاد جهاراً نهاراً؟ دسُّ الرأس في التراب؛ عبر التصدي لأغنية عابرة لا يقوّم حياةً. مؤسف قولنا بأن الممارسات هذه أنتجت لنا شعباً يتفقه بالحلال والحرام ولا يستعين بالعقل والعلم.
من ينظر الى ما قام به أحدُ المرشحين الإسلاميين من عملية احتيال في تأميل ناخبيه بإيجاد فرصة تعيين لهم في الحشد الشعبي يكشف لنا آلية الخداع التي ينقاد لها الفرد العراقي، فهذه أفعال لا تخرج عن قاعدة مفاتيح الغرف والوعد بالجنة، التي كانت تمارسها الكنيسة في عصر ما قبل النهضة باوربا، وإن كانت شائعة بيننا في دول عربية عدة. الى متى سيبقى الاستغفال آلةً في التجهيل وكسب الأصوات؟ وحتى متى سيظل الشعب ينوء تحت تهديد البندقية والعبوات الصوتية و المسدس الكاتم؟ ألا ينظر هؤلاء الى المحيط العربي والإقليمي، وما حدث ويحدث في ايران وسوريا والسعودية ولبنان من متغيرات؟ ولماذا يلجأ العراقيون دائما الى المُغيّر والفاعل الأجنبي في إحداث النقلة القادمة؟










